بيروت - عند كثير من المتابعين، لم يكن الغزو الروسي لأوكرانيا مفاجئاً بعد الغزو السّابق لشبه جزيرة القرم وضمّها رسمياً لروسيا الاتحادية في العام 2014، وبعد التغلغل في شرق أوكرانيا بمشاركة قوات روسيّة خاصّة تدّعي أنها ميليشيات أوكرانية تُطالب بالحكم الذاتي، وتدّعي الدفاع عن مصالح الأوكرانيين من أصول روسيّة في المنطقة، منذ ذلك الحين.
دروس التاريخ
ما زاد التوقعات مصداقية أنّ الرئيس بوتين سبق له أن تحدّث في أكثر من مناسبة عن تاريخ أوكرانيا السوفياتي وما قبله، مدّعياً أنّها جزءٌ لا يتجزّأ من الإمبراطورية القيصريّة وما بعدها، وكان من الخطأ السماح باستقلالها بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي.
ولأنه استطاع أن ينجو من ردة فعل عسكرية وعقوبات اقتصادية مكبّلة بعد مغامرات سابقة في جورجيا والشيشان وسوريا، فقد شعر الرئيس، الطامح إلى استعادة أمجاد بطرس الأكبر ومدّ النفوذ الروسي إقليميّاً ودوليّاً كقدر تاريخيّ مقدّس، أنه يستطيع النجاة، هذه المرة أيضاً.
خلافات المعسكر الغربي
ساهم في ترسيخ قناعته الخلافات في داخل الناتو، وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومع الحلفاء الشرقيين، وتحالفه مع الصين والهند، وشراكته المتميزة مع دول "الأوبك+"، إضافة إلى حاجة العالم الماسّة إلى النفط والغاز والقمح والمنتجات المعدنية والزراعية الأخرى من روسيا وأوكرانيا؛ كرّس ذلك كلّه توصُلَ بوتين لنتيجة راهن عليها بأن العالم لن يتحرك هذه المرة أيضاً؛ وحتى لو واجهه بالعقوبات والدعم اللوجستي لأوكرانيا فإنّ أكثر من 600 مليار دولار في الاحتياطي العام للدولة يُمكنه من الاستمرار والصمود.
رهان الجيش والاستخبارات
راهن الرئيس الروسي أيضاً على كفاءة قواته المسلّحة وأجهزة الاستخبارات، التي عمل خلال العشرين سنة الماضية على دعمها وتطويرها وتدريبها في البلدان التي غزاها. وبحساب أن القوات الأوكرانية أقلّ من قواته تطوراً وعدداً وعتاداً، ولم تجرّب في حروب من قبل، وأن لديه داخل الدولة الجارة طابوراً خامساً قوياً وأقليّة روسيّة تتطلّع إلى العودة إلى البلد الأم، فقد تصور أن الحرب ستنتهي خلال أسابيع، قبل أن يستيقظ المارد الغربيّ ليقدّم الدّعم أو يقوم بالردّ بأيّ شكل يتجاوز مزيداً من العقوبات الاقتصادية، والضغوط الدبلوماسيّة التي يمكن تحمّلها.
كل هذه كانت حسابات منطقيّة، مدعومة بتجارب وخبرات سابقة، لكنها فشلت على محكّ التجربة الفعلية؛ فلا أوكرانيا انهارت وسلّمت، ولا الغرب تردّد في دعمها، ولا الأرصدة المالية نجت. أمّا القوات المسلحة والاستخبارات الروسيّة فقد أثبتت فشلها أمام صمود المقاومة الأوكرانية وأسلحتها الغربية المتطوّرة، وتكشّفت عورات السلاح الروسي في ميادين المعارك الحقيقية، وتبيّن ضعف معلوماته أمام الاستخبارات الغربية.
توسّع الناتو
وبدلاً من أن يردع هذا الغزو أوكرانيا عن الانضمام إلى الاتحاد الأوربي أو حلف شمال الأطلسي، عجّل في قبول الطلب الأوّل، وأخّر الطلب الثاني. وفي المقابل، سارعت دول حدوديّة، السويد وفنلندا، إلى تقديم طلب الانضمام لحلف الناتو، بعد عقود من الإصرار على الحياد.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن، أين المخرج؟ وما هي السيناريوهات المحتملة؟
ناقشت هذه المسألة مع مراقب سياسيّ وخرجنا بالتصورات الآتية.
سيناريو الانسحاب
التصوّر الأول: انسحاب عسكري من معظم أوكرانيا، مع بقاء محدود في المناطق الشرقية لدعم المتمرّدين الروس. هذا الحلّ سيُبقي بوتين أقوى داخلياً، ولكن أضعف خارجياً، وسيزيد من توجّهه نحو السيطرة على كافة مؤسّسات الدولة وإضعاف الآلة الديمقراطية، ممّا يقود إلى المزيد من الاستبدادية.
بذلك يستطيع بوتين أن يخفف من العقوبات الدولية، وأن يستعيد مكانته على الحلبة العالمية اقتصادياً ومالياً وسياسياً، مع انكفاء إلى الداخل، والتركيز على تقوية الجيش والاقتصاد والبنية التحتية. يستقبل الغرب هذا السيناريو على مضض، لأنه وإن أبقى على بوتين، وحافظ على روسيا كدولة قوية ومؤثرة، فسيُبقي روسيا كخطر تحشد له القوى، والحلفاء، ويبرر للساسة رفع ميزانية الجيش والاستخبارات، والإبقاء على حالة التأهب.
سيناريو الاستنزاف
التصور الثاني: بقاء روسيا في المستنقع الأوكراني، واستمرار الاستنزاف العسكري والمالي، وتراجع الدعم الشعبي. وقد يقود ذلك إلى إقالة بوتين أو استقالته، واستقواء المؤسسات الدستورية وتنشيط العملية الديمقراطية. وسيسمح ذلك بعودة فورية إلى الحلبة العالمية اقتصادياً ومالياً وسياسياً، مع انسحاب عسكري من الخارج، وخاصة سوريا، وانكفاء على الداخل.
يرحّب الغرب بهذه المخرجات، لأنها تضعف روسيا وتبعد بوتين؛ وترفض الصين لأنها ستصبح وحدها الخطر الذي يركّز عليه الغرب، وتحشد له قواه. ويخسر العالم بذلك توازن القوى العظمى ويعود بنا إلى القطبية الغربية التي تتسيّدها أميركا مع منافسة اقتصادية مع الصين، وربما مستقبلية من القوى الصاعدة، الهند والبرازيل.
سيناريو النصر
التصور الثالث: استسلام أوكرانيا أو وساطة ومفاوضات تقود إلى تحييدها عسكرياً، واختراقها سياسياً من المعسكر الروسي، وحكم ذاتي للمناطق الشرقية، ومزايا وقواعد روسية في القرم.
يسمح هذا السيناريو لموسكو بإعلان النصر وبقاء بوتين أقوى داخلياً وخارجياً، مع المزيد من الطموحات والتوسّعات الدولية. والمزيد من الاستبدادية الداخلية. يرفض الغرب ودول الجوار ذلك، لأنه سيبقي على روسيا دولة نووية قوية، واثقة الخطوة، وعدوانية التوجه. ولأنه سيسمح بتشكّل قطبية ثلاثية (أميركا، روسيا، الصين).
سيناريو الحرب العالمية
الاحتمال الرابع: حدوث تمرد في الجيش وتحرك للمعارضة ومظاهرات شعبية وتململ القوى الاقتصادية والدولة العميقة نتيجة لخسارة مهينة في أوكرانيا. يسود شعور عام بوجود تهديد داخليّ وخارجيّ وجوديّ (حقيقي أو متصوّر). يقود ذلك إلى إعلان حالة الطوارئ وتشكيل مجلس قيادة عسكري يقوده بوتين أو ينقلب عليه وينهي دور المؤسسات المدنية في إدارة الدولة وصناعة القرارات الدولية.
يقود هذا السيناريو إلى عالم منقسم، يميل أكثره إلى الغرب، ويؤدي إلى احتكاكات حدودية مع الناتو تضع الطرفين على شفير حرب نووية مدمّرة للجميع. يتحاشى الغرب هذا السيناريو وسيتوقف عن ارتكاب أيّ أعمال قد تؤدّي إلى هذه النتيجة وسيعمل مع المؤسسات الأمميّة والدول المحايدة لتفاديها.
السيناريو الأكثر احتمالاً
توصلت مع زميلي بعد نقاش طويل إلى استبعاد الاحتمالين الثالث والرابع، فالدعم الغربي الكاسح لأوكرانيا سيمنع استسلامها وتسليمها لروسيا، وتمرّد الجيش في هذه المرحلة المواجهة العسكرية مع الناتو لا يخدم مصلحة أيّ من أطراف الصراع؛ وبقينا نتأرجح بين التصور، الأول الذي يخرج روسيا بانتصار رمزيّ ويبقيها في الحلبة الدولية مع استمرار بوتين، والتصور الثاني الذي يُطيل أمد الصراع حتى ينتهي الحال إلى ما انتهى إليه الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
توصلنا في النهاية إلى أنّ الأوّل هو الأقرب إلى منطق السياسة. فروسيا لن تسمح باستنزافها والبراغماتية ستنتصر في نهاية المطاف على الشعاراتية والمشاعر القومية. ما رأيكم؟ النهار