Off Canvas sidebar is empty

حوار الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد


كان ذلك الهدهد يطير فوق جسدها الممدَّد على الأريكة الزجاجية، حيث تتخذ مكانها بالقرب من نهر الأغاني المتدفق بين سهول تملأها زهور عبّاد الشمس وتماثيل رمادية الفراء لذئاب تجلس على كراسيٍ من الحجر .كان المشهد غريباً حدّ الدهشة، ومثيراً للريبة في الوقت نفسه. فما علاقة ذلك الطير بالمرأة المضطجعة، أو بفوج الذئاب المستغرقة بالنوم على كراسيّ الحجر؟ لم يستمر الانتظار طويلاً، حتى تحركت الشاعرة فروغ فرخزاد بتنورتها الـميني جوب، مقتربةً من تلك الذئاب، لتجلس بينها وبين زهور عبّاد الشمس، وتقرأ قصائد من كتاب بنفسجي كان في يدها. للمرة الأولى في تلك اللحظات، استمعنا إلى لغة الطير في ذلك المكان. فبعدما أغدقت فروغ على الحاضرين مقاطع من الشعر والدمع، لم ينقطع الهدهد الذي رافق الشاعرة بالغناء عن بث عظيم صوته فينا، حتى تخيلنا أننا موجودون في دار أوبرا للحِداد وللأنغام الصوفية، من أجل الاحتفال بالصاعدين إلى الملكوت .آنذاك تقدمنا من الشاعرة فروغ فرخزاد سائلين:
* ما الذي حدث لتكوني هنا في مملكة تماثيل الذئاب؟
- يا له من سؤال جميل. لقد وجدتُ من أجل عزاء نفسي، وتفريغها من حمولات الرجال فقط. ربما العيش مع الذئاب أفضل من السكن مع سواها من مخلوقات الأنس.

* ربما من الأفضل نسيان الماضي يا سيدة فروغ. لكن، أليست الحياة على الأرض شبيهة بنهر موسيقي تتردد أصداءُ مياههِ في حقول الأرواح؟
- لا أظن ذلك. كان وجه الحياة مليئاً بالبثور هناك. وكلّ ألمٍ يتحول إلى مشاجرة مع جسد صاحبه. علماً بأننا كنا نبتسم بعرض الفم وطوله، إلا أن القَدَم كلما تقدمت خطوةً، وقعَت في فخ لالتهام المشي منها...

■ أهذا ما يجده قارئ دفتر حساب فروغ فرخزاد بعد سنوات غيابها؟
- لا أعتقد بوجود أرقام غير ميتة في دفتر حساب لا يزال حتى اللحظة مفتوحاً، وكأن لا نهاية لقصصي حتى بعد موتي على تلك الأرض. أعرف النيات الخبيثة، أو خبث النيات. ففي سيرتي الذاتية لا يزال دِبس السكّر ينضح على درجة كافية من الحرارة. هناك متربصون قد يتمكّن بعضهم من أن يطبخ بقصصها طنجرة من أكلة "قرمه سبزي".

* التعليق على الأسئلة بهذه الطريقة السوداوية الهازئة، هل هو إصرارٌ على التمتع بإجازة في العدم على سبيل المثل؟
- العدمُ تهويلٌ فلسفي مضادّ للهلع الرومنطيقي الذي أصابني به القدر، ولا مكان له في رأسي. لكنني أشعر بحاجتي إلى النوم أطول فأطول فأطول. تعبي لا يقاس. وفي نعاسي أصبحت النباتاتُ أشجاراً

* هل للشعر فوائد بالنوم، ولذا وجدتِ ما يمكن أن نطلق عليه نقاهة الموت؟!
- أنا أعتبرُ الموتَ بمثابة حمّام ترابي موازٍ للحمّامات الشمسية التي عادة ما يأخذها "البلاجيون" على الشواطئ. هم مع المياه. ونحن مع التراب. كلٌّ منا يسبح في المساحة المخصصة له.

* لكنكِ خارج منطقة التراب القديم. فأنتِ هنا في السموات. خارج الاضطهاد والتعذيب وخزائن الملابس التي تُعلّق فيها الحريم أجسادهنّ مع الثياب !
- قد أكون حنبلية في تصرفاتي، أو أدخر بعض المازوشية في نفسي المضطربة. لذلك تراني أواظب على الاستمرار في هذا النهج خدمةً لأهداف تتعلق بالشعر وحقوله الحمراء.

* تقصدين حتى انبعاث الدخان من القصائد أم حتى طلوع البرق من الروح؟!
- أنا امرأةُ الاحتراق المتباطئ. لا أزال أحتفظ بنيران الآخرين الكامنة في حواسي العميقة. كلما حاولتُ إطفاءها، سرعان ما تشتعل من تلقاء نفسها بشكل ميكانيكي لا أعرف له سبباً.

* هل تعتبرين الغرامَ شجراً يتخشب، ويقبل الاحتراق بنفسه، كلما وجد الحاجة إلى ذلك، سواءً ندماً على فشل ما لحق بالقلب، أم افتراساً لقطعة ما من جغرافيا الذكريات؟
- الحبُّ مثل سخّانة الحمّام، لا يمكن التلذذ بمياهه إلا في حال واحدة: أن تكون عارياً. هكذا هو الغرام عندي: قائمة طويلة من العطور ومن الذكريات الحميمة. بل وهو في حالات التجلي القصوى، يصبح بعطره مثل رائحة السمك المدَخّن، تلك التي لا تختفي إلا بشق الأنفس.

* كأن الغرام هو الإرث الوحيد الذي يتبقى من الشاعر. ألا تعتقدين بمرارة تلك الصورة أو الفكرة؟
- هذا هو الأكيد. لم يكن الحبّ حبة بطاطس، يمكن المرء التهامها مسلوقة أو مقلية أو مشوية، ثم ينتهي الأمر مع وجبة الطعام اليومي وإقفال المطعم. ثمة شغف لا يصنع حياةً بالمطلق، بل يقترب بالمشغوف خطوةً خطوةً نحو الحوض الأعظم لتلك النار المجازية. فجهنميات العاشقين هي الحبل السرّي الذي يربط حركة التاريخ بوجود أولئك الفرسان وحدهم.

* كم امرأة تسكن جسدكِ، يا فروغ فرخزاد؟
- امرأة واحدة لا غير. أنا. أما ما تفيض به نفسي فهو بارودٌ للزينة .

* أليس هذا تطرفاً من شاعرةٍ، فتحتْ في الورقِ ألفَ نافذةٍ لقرائها من النساء، ثم تأتي لتتبجح بمقولةٍ أنانيةٍ مثل هذه؟!
- كان على النساء أن لا يقلدنّ فروغ ويبقين مخدرات تحت الحجب والشراشف. كنت في كل لحظة من حياتي منقل نار ورماد. إلا أنني عادة ما أخرج من هناك كالعنقاء. مع ذلك يأتي رجالُ القبائل وعلمانيو الرمال وخفافيش الظلام لختم ظهري بعبارة: أنتِ من جنس الحريم. ولا يكون علىّ إلا الرضوخ لمشيئة تلك المكْواة المسَخّنة. إلا أني، وعلى الرغم من ذلك الاشتعال المشترك بين ثيابي وجلدي، انتصرتُ للشعر كمركبٍ استطاع أن يشق المياه الساكنة في المجتمعات السلفية الموضوعة في برواز الحضارة .

* هل يمكن الاعتقاد بوجود نظرية أو شبه فرضية تؤكد أن دخول النساء الشعر أو الفنون عموماً، يعني خروجهنّ من المنازل؟
- ذلك هو الحلم الذي نعزّي به أنفسنا، لكنه حلمٌ يشبه فيلاً يتنازع حوله المحاربون من أجل انتزاع أنيابه العاجية. أعظم أحلامنا تنهار، أو تتحول إلى قطع عاجية تُباع للزينة في الأسواق. أما التمرد على طقوس الطبيخ ولحظات الحقن بالسموم البيضاء في الفراش وتنظيف الأطباق والملاعق والرقص مع المكنسة وغسل أقدام البعل بالماء والملح والصابون، فتلك كلها ستبقى من الأحلام في الشرق الذكوري المتعفن .

* هل بسبب ذلك التمرد المتصاعد، أطلقتِ على أول كتاب لك في الشعر عنوان "أسير". أي كان توظيفاً مؤلماً لتلك المفردة من قبل شاعرة في مقتبل العمر. كيف يدخل أحدٌ الشعرَ بحقوله الشاسعة، فيما هو أسير؟!
- لم أظن أنني ارتكبتُ غلطةً باختيار ذلك العنوان. فأنا بدأت الحياة أسيرةً تعيش في دولاب ضيق برفوفٍ لحفظ الملابس والتقاليد والسيوف المتغذية بمنهج الدفاع عن شرف العائلة.

* أهو مجرد إحساس بضيق التنفس من المكان، أم ثمة شيء منكِ، وقع أسيراً في يد العدو بالضبط؟
- خزائن البيوت، لا تضم الثياب والمجوهرات والأحذية، بل تحتوي رفوفُها وجيوبُها الأحاسيس والمشاعر والأسرار الحارة التي عادة ما تفسد، حال خروجها من وراء تلك الأبواب. لذلك تستطيع أنتَ أن تعتبر أني وجدت لي قلباً ضالاً أو أسيراً في خزانة بيت الزوجية، أو ما يُسمّى بالعدو التقليدي للمرأة في الشرق، وخصوصاً في حال وجود قفل حديدي ضخم مكبَّل.

* هذا نمطٌ رسمي من حكي النساء جميعاً. فما إن تبدأ الثلوج بالتساقط على الأجساد، وتملأ الحواسّ، حتى تبدأ نزعةُ التحرر لديهنّ، وتتسرّب ألسنة النيران من كلِّ حدبٍ وصوب.
- لا أريد التحدث عن الأخريات بشكل عام. لكنني سرعان ما وجدتُ جسدي في محل للرهونات. لم استسغ الوضع، وانفجرت تأملاً بالعالم، وانفتاحاً بالذات على المناطق الواقعة في ما وراء الحجاب والإرث والرجال المحمودين من قبل القبائل ووسائل الضغط الاجتماعي التي وجدت فينا ظاهرةً منافية للدين وانحرافاً عن الصراط المستقيم، تقاليد وثقافة. المرأة بقرةٌ، متى ما انتُهكت صفتها تصبح شريرة ومن علامات يوم القيامة. لذلك لا بد من التأديب والاعتقال والمحو .

* هل كان شعوراً منكِ برفضِ العزلة أو الإقامة الجبرية، أم أن فيضان الشعر كان أعلى واعنف من قوة السفينة وحجمها؟
- لقد استولى الشعر على السفينة، وحملّها مخلوقاته، ومن كل نوع أربعة.

* تقولين أربعة، فيما أخذَ سيدُك نوحٌ من كل زوج اثنين...
- من أين لنا عقل سيدنا القديم وصبره. نوح في ما مضى، يستطيع أن يُرشد ويصالح ويرمم كلّ خراب يحدث ما بين اثنين، أما أنا المُشتتة، فلا أحتمل أن تنام امرأةٌ في سرير رجلٍ، ويسميها بقرةً بعد انقضاء الحاجة. لذا، لا ينقص امرأة حيوانٌ مثل ذلك الزوج الذي يستحق الرمي بحراً، لأن الطوفان كفيلٌ تعليمه أصول الحبّ .

* كتبتِ تقولين: "قلما عرف الشعر الفارسي الحديث معنى أن تحب بصدق، فالحب فيه مبالغٌ به جداً وكئيبٌ جداً ومتألمٌ جداً إلى درجة أنه لا يناسب الدروب المضطربة والسريعة لحياة هذا العصر. أو أنّه بدائيٌّ جداً ويفيض بألم الامتناع عن الزواج بحيث أنه يذكّر المرء تلقائياً بالقطط الذكور في موسم التزاوج على السطوح المشمسة. فالحب غير محتفىً به كأجمل وأنقى شعور لدى البشرية، واتحاد وامتزاج جسدين الذي يشبه بجماله التسبيح والدعاء قد انحط بمستواه إلى مجرد حاجةٍ بدائية". هل تتبنى هذا الرأي جميع الشاعرات الإيرانيات هذه النظرة؟
- ليس بالضرورة أن يحصل تبني الأفكار بشكل جماعي. المشكلة لا تتعلق بالأطروحات المتعلقة بالحب، وكيف يمكن تقسيمه نسباً ما قبل الزواج وما بعده. وكم هي درجة حرارته عند العاشق، وكم تكون درجة برودته عند المتزوج. لا تنفع العصا الغليظة مع الحب في بيت الزوجية، مثلما لا نفع للجسد بالحب الهلامي الأخطبوطي المفتوح .

* هل الحبّ نظامٌ يمكن خلخلته؟
- الحبّ نظام إلهي يعتمد على القضاء والقدر. وربما لا يُسْتَعْمل مرةً واحدةً فقط.، مثله مثل الموت الذي يمر بمراحل عدة من المرض والجنون والغيبوبة، ثم يأتي الخراب الإكلينيكي الذي يدفع بعربة الموتى إلى الخوض برحلة ما وراء الأرض.

* مذهب الوجودية في شعركِ، يتعلق بالشهوة كنواة تدور عليها رحى الطاحون بشقيها الذكوري الأنثوي. أليس ذلك كان عملاً باهظاً لكتابة شعر على المنوال الغرامي في المساحة الإسلامية؟
- ما دام الطاحون لا يستطيع العمل بقطعة واحدة من الرحى الاثنتين، فإن من حق آلة طحنِ الأجساد المشتركة، أن تنال جوائز الدولة التقديرية، لا التوبيخ الأعمى من رموز الإرهاب الفكري، ممن يعتقدون أن الربّ الذي خلق الشهوة الأعظم للوجود والموجودات، قد كَلّفَ البعض أن يرموا بها في صندوق القمامة بقرار استباحي.

* ثمة من يلاحظ أن أمتعة الشهوات عندك زائدة على الوزن المسموح به دينياً، لذا يحتاج إلى تدخل من شرطة الآداب. ما رأيك؟
 - أنا لا أعرف كيف تكون للشعوب على الأرض شرطةٌ للآداب، فيما لا وجود لشرطي في السموات؟!

* في جلّ ما كتبتِ من شعر، تركتِ الشهوةَ هي السنترال الذي يقوم بالتحكم في اتصالات شبكة الحواسّ، وامتلاك القدرة الكافية على توزيع الكلمات على النصوص، وفقاً لدرجة حرارة لغة العين المتشابكة الأسلاك. ما مدى صحة قول كهذا؟
- كلّ هذا الكلام بديعٌ. فالشاعر ليس سوى مدير تنفيذي لمختلف الانقلابات التي تحدث في الحواسّ، وقبيل أن تدفع بكائناتها الحيّة والمختلفة في مجرى اللغة. أنا لم أكن امرأة حديدية مثل مارغريت تاتشر التي سبق لي أن صادفتها قبل أيام هنا في دكان لبيع المسامير والبراغي. أنا وجدتُ نفسي في حوض الحبّ بمائه ورماده وناره وأنينه، ولن أبقى بعيدة عنه، حتى لو تحولتُ إلى أنقاض مشتتة بين العواصف.

* هل تكمن بطولةُ الشاعر في صناديق ذكرياته؟
- أجل. وطالما الذكرياتُ لا تترك الشاعرَ سيّدَ نفسه.

* في أحايين كثيرة، يشمّ القارئ الذكي والمتصفح العمي رائحةً للحمٍ مشوي قادمة من قصائدكِ. أي رعب يكمن وراء تلك الصورة المقلقة التي يخرج بها القارئ الحاذق؟
- أنا في ما أكتبه، لا أجد ملاذاً للاستمرار مع مكونات النصّ، إلا من خلال الانخراط في تلك الأوبرا الحمراء للدم المشتعل في مناطق جسدي. فالأغلبية الساحقة للغة، لا تتعلق بمشاعر الكلمات وأحاسيس الأفعال وحروف الجر والمجازات والتوريات والبلاغة، إنما الفعل الأعظم للشعر، يكمن في قدرتك على الابتعاد عن جنازة الأسلاف، أو رميها للأسفل من دون النظر إلى عمق الهاوية .أما عن رائحة الشواء، فربما هي ناجمة عن قوة احتكاك عجلات الشعر بسكة اللغة. هكذا تتم عملية الاحتراق المشتركة بيننا نحن الثلاثة: أنا والقارئ والنص، ثلاثتنا نتساوى بالرماد .

* نحن ندرك حقيقة مواقف كتّاب ومفكرين مشهورين مثل علي شريعتي إزاء وضع المرأة في المجتمع الإيراني، ساندوا التحرر بالقدر المطلوب فقط، وعارضوا تجاوز ما يُسمّى بالخطوط الحمر نفس شريعتي كما تكتب - فرزانة ميلاني- كتب :هذه الدمى المصنّعة في الغرب، الفارغة من الداخل، الزائفة والمقنّعة لا تملك مشاعر نسائنا في الأمس ولا ذكاء نساء اليوم الغربيات، إنهنّ دمى آلية لا هي آدم ولا هي حوّاء! لا هي الزوجة ولا هي المحبوبة، لا هي ربة المنزل ولا الموظفة. إنّهنّ لا يشعرن بالمسؤولية تجاه أولادهنّ أو تجاه الناس. لا، لا، لا ولا! هنّ كالنعامات اللواتي لا يحملن أي ثقل بحجة أنهنّ طيور ولا يطرن بحجة أنهن كبيرات الحجم كالجمال. هذا نوعٌ هجينٌ من النساء متراكمٌ في سوق الصناعات المحلية مع لاصقٍ كُتب عليه "صناعة أوروبا". حنين شريعتي لماضٍ كانت فيه القيم والهوية الأنثوية الأصيلة غير عرضة للشبهة وكانت فيه "النساء نساء" يمثل الشعور بالضياع والانحطاط الذي يسود أعمال الكثير من كتاب منتصف القرن العشرين رجالاً ونساءً على حدّ سواء. هذه الشخصية الأنثوية المغايرة لأصولها التقليدية، هذا التقليد الرديء القادم من الغرب، هذه الصورة الزائفة للنساء الإيرانيات التقليديات، هذا الهجين لم يكتفِ بدحر السلطة والسيطرة الذكرية فحسب بل جسّد أيضاً الخسائر المؤلمة التي تكبّدتها الهوية الثقافية. وكما هو مزعوم، فإنّ انحطاط الثقافة الإيرانية بالنسبة إلى الكثير من الكتّاب كانت قد تسببت به هذه المرأة "المتطبعة بطابع الغرب"، "نصف المتعرّية"، أي "غير المحجبة" و"الفاسقة". ألا تظنين أن شعركِ العاري، يحمل معه الكثير من عوامل الاستفزاز للكائنات المتطبعة بالتستر والحجاب والمحافظة المتجلية بالتعايش القسري مع جميع أنواع المكبوتات؟
- لا أعتقد أن في شعري إعلانات "بورنو" تفرض القطع أو الشطب أو الممانعة من قبل شيوخ دين، فتحوا لأنفسهم مختلف أبواب المتعة بالجماع. لقد خصصوا لأجسادهم التخوت الدينية والشراشف الدينية والحمّامات الدينية والحلوى الدينية. كل ذلك بات يجري، ليس مع مخلوقات قادمة من فضاءات بعيدة، بل مع النساء اللائي يبنون حولهنّ الأسوار ويحرسونهنّ بالجندرمة والأساطيل ويرجمونهنّ بالحجارة حتى الموت. أين الرجل القادر على شطب المرأة من حياته؟ أي أين الرجل القادر على انتزاع شهواته الزلال، ورمي عضوه التناسلي في تنكة الزبالة؟

* ثمة من يُدرك شعرك بهذه الطريقة النقدية: "إنّ حصر التحليل النقدي لشعر فرخزاد في استغراقٍ وحيدٍ بجانبٍ واحدٍ للحب، ألا وهو الجنسي بصورةٍ رئيسية، ليس إلا تتفيهاً لشعرها وإهمالاً لميزاته الأخرى الكثيرة. صحيحٌ أن موضوعات الحب تشكل باستمرارٍ نواة شعر فرخزاد، لكنّ معالجتها ليست شهوانية حصراً. فشعرها يستلزم إعادة تنظيمٍ جذريةً للقيم ويعترف بمحدوديات الحب التقليدي وفشله في إرضاء الشاعر ويخصص حقلاً معرفياً تواصلياً وشخصياً جديداً كانت النساء قد حرمت منه في ما مضى. فرخزاد تستكشف الذات ضمن حدود علاقات الحب بين الجنسين وما وراءها في آنٍ واحد، وهذا لا يحدث إنكاراً لعلاقاتها العاطفية مع الرجال بل على العكس يوسع طاقتها العاطفية. وبالفعل ففي بعض قصائدها نجد أنّ حاجتها للصداقة والاتّصال والتطور مشبعة بدرجة الحاجة الجسدية نفسها. هذا التبادل الفكري، هذا الالتزام بالتوسع بإمكان العلاقات قلما وُصِفَ في الشعر الفارسي الحديث قبل فرخزاد". ما تعليقكِ؟
- حتى لو كان الجنس هو الأس الذي تُبنى عليه نصوصي، فليس من الضروري نسفه أو تحطيمه تحقيقاً لرغبة عند الآخرين، وترك القصائد تحبو عارية على الحجر والتراب والإسفلت. ليس شغل الشاعرة أو الشاعر التخفي، وترك طرق الحياة سالكة أمام الناقمين والمعاقين جنسياً، أو الارتماء في أحضان النقاد المدافعين عن سلامة شرف حريم السلاطين، فيما معاولهم الجنسية منتصبة قبل أفكارهم .

* هل كنتِ مخلصةً لجسدكِ أكثر من إخلاصكِ للنصّ؟
- كلاهما من نطفة واحدة: الغرام. فالجسد عادة ما يكون سبورة النصّ الميّال للتخريب وإحداث الزلازل في المناطق الخاملة. لم أذهب إلى الغرام يوماً بتلك المشية العسكرية وسط أصوات جوقات من الفرق النحاسية، بل ذهبت إلى طقوسه طائرةً، كما البخار المتصاعد من طنجرة ضغط.

* كل ذلك من أجل أن تكوني طعاماً للرجل؟
- أجل. كلّ ذلك من أجل أن يكون الرجل لي وجبةً فاخرة من الأطعمة المقلدة عن مأكولات الجنة. كل من تقول لك غير ذلك، لا تتمتع بالقدر الكافي من الأنوثة راعية الخيول في إسطبلات الرجال .

* كيف تضعين الرجالَ في موقع كهذا الذي تشير إليه قواميس العربية بـ"حظيرة الخيل أو مأوى الدَّواب"؟ أيصح ذلك في حق أصحاب اللحى والشوارب؟!
- لا غلط في الوصف الذي طرحته. أنا سميتُ الرجالَ بالخيول مبالغةً، على الرغم من أن الأغلبية العظمى منهم، لا يشبهون إلا ديوكاً ترَبَّتْ على خدمات الدجاج. أنا فتحت في الرجال أقفاصهم التي أنتجت الأنانية وقامت بتربيتها مع المدائح والغدر والاستبداد والخنثويات والعواطف المفرَغة من كل جملة مفيدة. فبعض الرجال يتعذر وصولهم إلى النساء، وهم بين طبقات تلك اللحوم الباردة، بعدما فقدوا أدوات الاشتعال لطرد البرد أو قشط الثلوج من الأجساد المستلقية إلى جانبهم في الأسرّة. هنا تصبح الفروسية بالوناً ممتلئاً بالفقاعات، ويكون الحصان من أخوات الأرنب.

* وبسبب ذلك كان رفضكِ طاعة نظام المتعة الجنسية من طرف واحد؟
- في جسد كل امرأة مجموعةٌ من الآلاتٍ الموسيقية، سرعان ما تتحطم أو تصاب بالخرس، فيما لو لم يتم لها التناغم الأوبرالي مع الآخر. ليس للجسد غير نظرية واحدة: الجنس. ومنها تتفرع بقية النظريات التي تخوّل العقل، لأن يتبنى الشرح والتأويل والتصوير والغطرسة، حتى بالتفلسف عن إمكان تحول النسر إلى بائع متجول لبضائع فضائية .الجنس، ومنذ بدء الخليقة، لم يكن بمثابة ضمير الغائب أو الغائبة. هنا في الآخرة، سيُسأل الإنسان عن تاريخه الجنسي في تعمير الخلق وأعمار الخليقة. فصومعة الناسك لم تكن خياراً إلهياً قط، لأنها غرفة إعدام لبذرة التناسل، وهذا لم يأتِ بكتاب سماوي كما أجزم.

* لا.لا. هذا كثير ومبالغ فيه ومدهش. قد يكون اصطدامك في حادث السير الذي وقع لك في الرابع عشر من شباط العام 1967، أثّر في رأسكِ، فأزال منه الحكمة أو اللباقة. لكن ألا تظنين أن حادثة اصطدام سيارتك التي أدت إلى موتك، كانت مدبرةً من مخابرات الشاهنشاه رضا بهلوي، تخلصاً من تمردك، وإرضاءً لرجال الدين؟
- لم أعرف. لكن حادثة موتي أشبه ما تكون بقصيدة كُتبت باللغة الهيروغليفية ذات الرموز المبهمة. مع كل ما حصل، كان ذلك جميلاً لأنه أخرجني من أفران المتعصبين إلى فردوس المنعمين بالمعارف. أنا سعيدة برحلتي القصيرة السريعة، لأنها أنهت مرحلة ذبولي الأرضي إلى مرحلة نموي الربيعي بهذا الشكل الأبدي المطلق الذي أعاد إلى روحي كل تلك النجوم التي أخمدوها، وإلى جسدي مراوحه العملاقة الخاصة بإنتاج شهوات، لم نكن نعلم بوجودها يوم كنا مرميين كالجذوع اليابسة على بطون تلك الصحارى .

* قلتِ ذات يوم: "لفرط بهجتي ذهبت إلى جنب النافذة باشتياق. تكدر الهواءُ من الغبار المبثوث ورائحة المكنسة والبول، فآويت إلى صدري". أسألكِ: هل الشعر رطبٌ جنيٌّ. ومن يهزّ نخلته، الشاعرُ نفسه أم القارئ؟
- هذا سؤال خبيث ومهم. فبقدر ما هو مذهل، هو مرعبٌ بالتأكيد لأنه يشير إلى كون الشعر خطيئة تُرصف إلى جانب بقية الخطايا التاريخية التي أنتجتها الديانات، شرحاً لحركة الأقوام القديمة. كذلك لأنه سؤال يتعلق بثقل عمليات الاحتيال التخيّلي التي جاءت بها الأساطير لتطويع الشعوب وأنسنتها مع ما كان الجنون ينتجه من شخصيات وقصص وطقوس غارقة بالسحر والدهشة. لذلك يجب السؤال: أليس رموز البشرية مرضى المخيّلة وحدها؟

* ولكن ليس كل جسد بمخيّلة من برقٍ ورعدٍ ومطر يا سيدة فروغ؟
- أجل. لكن الأعظم من هذا وذاك، أن نخترعَ مادةً مرضيةً. أو نجد نوعاً من بكتيريا تقدر على العدوى، ليتم للشعر الشهواني أن يكون بكامل خياله في كامل المجموعات البشرية.

* أليس هذا تأسيساً للفساد؟
- لا بالمطلق. فالشهوةُ في الشرق تعدّ مقدمة الكائن البشري. إنها مثل آلة الهرمونيكا على فمهِ دائماً. فمخلوقاتنا عادةً ما تمارس الجنس قبل الوصول إلى السرير حتى. لكن حذار من أن تفهم أن الرجل وحده هو من يعزف على شهوته، بل النساء كذلك، مع فارق واحد لا غير، هو الأغلبية من نون النسوة، يعزفن شهواتهنّ خارج السلّم الموسيقي.

* ألا تعتبرين أن تشكيل الجنس الغربي ضمن برواز شرقي، قد يصنع لوحةً محطمة الفكرة؟
- لا يقصّ عليّ احدٌ حكاية الشرق والغرب في الحب. فكلانا نساء بأعضاء تناسلية واحدة موحّدة. المرأة التي لا تظفر بالذروة، سواء في الغرب أو في الشرق، عليها أن لا تئنّ كبيضة عديمة القدرة على الفقس والجنون.

* ثمة من يجزم أن جسدكِ سيكون حطباً لجهنم. ولكن ليس قبل أن يجفّ جذعك، فيصبح صالحاً للاحتراق. ما رأيكِ؟
- يبدو أن هؤلاء من المصابين بالجذام في الفيلم الذي أخرجتُه تحت عنوان "البيت أسود" (The House is Black) وسأقوم بتصوير أجزاء أجسامهم المتطايرة حال وصولهم إلى هنا. ففي هذه السموات الشاسعة، لا وجود لمحرقة تخصّ العاشقين من أهل الغرام. هنا المحب يُكرَّم. وهنا أسهمُ العاشق أعلى وأقوى العباد إيماناً في لوحة الخلود. أما حب الترانزيت الذي كان موجوداً على الأرض والصحارى هناك، فهو مستهجنٌ وغير متوفر في طبعة السموات الخاصة بعالم الأحياء.