عمان - بفيلمه المعنون " الجنرال ديلا روفيري" (1959)، يعود المخرج الايطالي "روبيرتو روسليني" الى النهج الذي ساهم بريادته، عام 1945، بفيلم "روما مدينة مفتوحة" والذي يعتبر بداية الواقعية الايطالية الجديدة، يشاركه فيه أحد رواد هذه الموجة، وهو المخرج "دي سيكا" الذي قام بتمثيل دور الجنرال، البطل الرئيسي بالفيلم.
في "جنوى" 1943، وفي أجواء الحرب، وسيطرة النازيين على إيطاليا، يظهر اللص المحتال "ايمانويل باردون" (دي سيكا)، حيث يوهم الناس انه عقيد في الجيش الايطالي، ويستغل أناقته والذكاء الذي يتمتع به للايقاع بأهالي المعتقلين، لاخراج ابنائهم من معتقلات النازية مقابل مبالغ مالية، فهو يتتبع العائلات التي تم اعتقال آبائها، والزوجات اللواتي اعتقل ازواجهن، دافعه لذلك تسديد ديون القمار الذي أدمن عليه، ويتمكن من أن يخدع الضباط الالمان، من خلال تواصله معهم على اعتبار انه عقيد ايطالي صديق، ويستخدم اي معلومة من اجل نصب شباكه حول ضحية جديدة.
هذا النصّاب المقامر الافّاق، يقع أخيرا في قبضة الالمان، ويكتشفون شخصيته الحقيقية، ويتزامن ذلك مع مقتل الجنرال "ديلاّ روفيري" أحد ابطال المقاومة الايطالية، ورمزها، حيث كسب شعبية واسعة، وثقة عالية نظرا لمواقفه وبطولاته، والذي يبقي الألمان مقتله سرا. وهنا يجد الضابط الالماني في شخصية "باردون" الفرصة للكشف عن أعضاء المقاومة من خلال إدخاله للسجن، بعد ان يضعه أمام احتمال الإعدام أو السجن المؤبد، أو الموافقة على القيام بدور الجنرال "روفيري" وتقمص شخصيته، وهو يستخدم قدرات النازيين في الحرب النفسية، حتى يكون "جاسوسهم" المقنع للسجناء السياسيين، ومعتقلي المقاومة الايطالية، بهدف الوصول الى عصب التنظيمات المقاومة، وضربها، من خلال المعلومات التي يمكن ان يصل اليها "باردون" من المساجين.
في السجن يجد" باردون" حياة اخرى، وانماط علاقات، ووسائل تواصل، ونماذج من الرجال الوطنيين، القادرين على المقاومة، والمؤمنين بقضية تحرير ايطاليا، والذين يتحملون كل وسائل الترهيب للمحافظة على اسرار المقاومة، ويكتشف هذا الاحترام الشديد لشخص بطل المقاومة الايطالية الجنرال "روفيري"، وهنا تبدأ التحولات في داخله، وتدريجيا يكبر الوعي لديه، ويكتشف ان هناك ادوارا في الحياة أكثر رقيا وقيمة مما قام به فعلا في حياته، ويتعلم من تلك التفاصيل الصغيرة في حياة هؤلاء السجناء، وقدرتهم على الصمود والمقاومة. وكلما ازداد ضغط الضابط الالماني "مولر"، كلما ازدادت درجة التحول عند " باردون"، الذي يرى في داخله شخصية قريبة من شخصية الجنرال الذي تقمص شخصيته للايقاع بسجناء المقاومة.
في النتيجة يحسم" باردون" موقفه تماما، وصولا إلى الذروة عندما وصلته صورة الكونتيسة " زوجة الجنرال رفيري" مع الاطفال، فعندها أدرك تماما أنها اللحظة المناسبة ليكون بحجم الاّمال التي تعلقها عليه أسرته، والمقاومة الايطالية، وتنهض بداخله قيم الوطن والشرف والدفاع عن الوطن،
واتضح ذلك عندما احترق جزء من السجن بسبب غارة جوية، حيث تماهت شخصيته مع شخصية الجنرال "روفيري" وقام بتحفيز المساجين، وأصبح شخصية مناقضة تماما لتلك التي دخل بها السجن، ووقف الى جانب بلاده مع رجال المقاومة، وتقدم الى الصف الذي وضع فيه الالمان السجناء لإعدامهم، واستقبل الرصاص، وهو مفتوح العينين.
شخصيات الفيلم مرسومة بدقة، ومن خلال مواقعها المتضادة، تظهر عناية المخرج بادارة ممثلية، فاذا كان" دي سيكا" قدم دورا مميزا لشخصية مركبة،وابدع في استخدام ادواته التعبيرية في التحولات التي طرأت على شخصيته، فان الممثل " هانس مسيمر " الذي كان في مواجهته، الضابط الألماني "مولر"، قدم ايضا دورا مهما، دون مبالغة او الجنوح نحو تقديم صورة نمطية عن الضابط النازي، والامر ينطبق على بقية الممثلين، حتى في ادوارهم القصيرة، مثل المجموعة الوطنية في السجن، والدور القصير المؤثر للكونتسية" روفيري زوجة الجنرال.
نجح المخرج في ان يضع المشاهد في اجواء الاحتلال النازي، من خلال حركة الكاميرا في الشوارع، وطراز المباني، وتصويره لاجواء السجن، واهتمامه بكل التفاصيل الصغيرة. ولعل تصوير تلك العبارات التي يكتبها المناضلون ضد الاحتلال على جدران السجن، قبيل اعدامهم، تعتبر واحدة من الالتماعات الهامة بالفيلم، والتي وظفها المخرج في عملية التحول لشخصية "باردون" من شخص يعيش عالة على مصائب الحرب، الى انسان مسكون بالكرامة الوطنية وأدرك انه له دورا في الحياة، تمثل بالتضحية والفداء الحقيقي في المشهد الاخير. الفيلم ينتمي للواقعية الجديدة، هذه الموجة التي اتسمت بالواقعية والتصوير في الأماكن الطبيعية بعيدا عن الأستوديو والشخصيات من عامة الناس، وكل ملحقات العرض من ازياء وديكورات وغيرها.