مدريد - منذ 65 ألف سنةٍ مضت، ظهر إنسانٌ بدائيٌّ ورسم خطوطاً باستخدام خضابٍ أحمر على حائط أحد الكهوف، ليصبح أول فنان معروف على وجه الأرض، حسبما زعم بعض العلماء.
ويدحض هذا الاكتشاف الاعتقاد السائد بأن الإنسان الحديث هو الجنس الوحيد الذي يعبَّر عن نفسه من خلال الأعمال الفنية، بحسب تقرير صحيفة The Guardian البريطانية.
وفي كهوفٍ منفصلةٍ عن بعضها بآلاف الأميال، لطَّخ البشر البدائيون ورسموا رسومات ملونة على حوائطها؛ لينفذوا أعمالاً فنيةً قبل عشرات آلاف السنوات من وصول الإنسان الحديث إلى هذه المواقع، حسبما ذكر الباحثون.
وتفتح هذه النتائج، التي وُصفت بـ"تقدم هائل في مجال التطور البشري" بواسطة أحد الخبراء غير المشاركين في البحث، بابَ النقاش حول إحدى الروايات الأصولية لقصة الإنسان، التي تفيد أن سلوك الإنسان الحديث يختلف عن البشر البدائيين بفروقاتٍ بسيطة.
وحتى الآن، يُعد الدليل على ظهور الفن في عصر البشر البدائيين ضعيفاً ومحل خلاف شديد؛ وذلك لأنه في أغلب الأحيان تكون هذه الأعمال الفنية ليست قديمة بما يكفي لاستبعاد أن يكون البشر الجدد هم الفنانين الحقيقيين الذين نفَّذوها. لكن هذه النتائج الأخيرة، التي تستند إلى تواريخ جديدة للرموز والرسومات اليدوية والأشكال الهندسية التي وُجدت على حوائط كهوف في إسبانيا، تُقدِّم الدليل الأكثر إقناعاً حتى الآن.
وقال أليستير بايك، أستاذ العلوم الأثرية بجامعة ساوثامبتون البريطانية: "أعتقد أننا نملك دليلاً قوياً لا جدال فيه. لقد صُعقنا عندما توصلنا إلى أول تاريخ لهذه الأعمال الفنية".
قطع زخرفية عمرها 120 ألف عامٍ!
وكان البشر البدائيون بالفعل مستقرين في موطنهم بقارة أوروبا، عندما رحل البشر الجدد عن إفريقيا، واتَّجهوا إلى القارة العجوز منذ نحو 40 ألف سنةٍ مضت. وتعود بقايا البشر البدائيين، التي عُثر عليها في هيئة هياكل عظمية وأدوات وقطع زينة زخرفية، إلى أكثر من 120 ألف عامٍ في هذه المنطقة.
وفي دراسةٍ نُشرت على مجلة ساينس العلمية الأميركية، الخميس 22 فبراير/شباط، توصَّلَ فريقٌ دولي يقوده باحثون من المملكة المتحدة وألمانيا إلى تاريخ قشور كلسية نشأت على سطح بعض الأعمال الفنية القديمة في ثلاثة كهوفٍ بإسبانيا. ونظراً لتكوُّن القشور بعد تنفيذ الرسومات، فإنها تكشف الحدَّ الأدنى لعمر هذه الأعمال الفنية.
وتكشف القياسات التي أُجرِيَت في كل من الكهوف الثلاثة أن الرسومات المنقوشة على حوائطها سبقت وصول الإنسان الحديث بـ20 ألف سنةٍ على الأقل. وفي كهف لا باسييغا، الواقع بالقرب من مدينة بلباو شمالي إسبانيا، يرجع تاريخ إحدى الرسومات على شكل سلم قصير إلى أكثر من 64800 سنة مضت. وتظهر رسومات خافتة لحيوانات بين درجات هذا السلم، لكنها ربما تكون قد أُضيفت عندما عثر البشر الجدد على هذه الكهوف بعد آلاف السنين.
أما في كهف مالترافييسو غربي إسبانيا، فقد وُجِدَ أن رسمة تشبه شكل اليد -اعتُقِدَ أنها رُسِمَت بواسطة بخّ الطلاء من الفم على إحدى اليدين قبل وضعها على حائط الكهف- تعود إلى 66700 عام مضت على الأقل.
وفي كهف أرداليس، بالقرب من مدينة ملقة الإسبانية، تبدو رواسب كلسية -تشكل رسومات تشبه الستائر- أنها طُلِيَت باللون الأحمر، ويرجع تاريخها إلى 65500 سنة مضت. ولم يستطع أحدٌ تخمين ما الذي كان يسعى منفذو هذه الرسومات للتعبير عنه، إذ قال العالم الألماني ديرك هوفمان، الباحث في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية بمدينة لايبتسيغ الألمانية: "ليست لدينا أدنى فكرة عما تعنيه أيٌّ من هذه الرسومات".
لا يُعد هذا هو السؤال الوحيد الذي تُرك دون إجابة، إذ قال بول بيتيت، أستاذ علم الآثار القديمة بجامعة دورهام البريطانية: "إنه لَأمر مثيرٌ أن تثبت أن البشر البدائيين كانوا هم أول فنانين في العالم وليس جنسنا، لكن يظل السؤال الأكثر أهمية هو ماذا كان يفعل البشر البدائيون في أعمال الكهوف المظلمة والخطيرة، إذا لم يكن ذلك نوعاً من أنواع الطقوس، وماذا يعني ذلك؟"
"البشر الأغبياء"
وفي بحثٍ ثانٍ نُشر في مجلة ساينس أدفانسيس العلمية، يوضح هوفمان وآخرون أن الصَّدَف المُخضبة والمزخرفة التي عُثر عليها في كهف بحر أفيونيس جنوب شرقي إسبانيا، صُنعت بواسطة البشر البدائيين منذ 115 ألف سنةٍ مضت، في إشارة إلى تقليد فني قديم.
تاريخياً، كانت تُعد الأعمال الفنية والتفكير الرمزي دليلاً على التفوق المعرفي للإنسان الحديث، وأمثلة على المهارات الاستثنائية التي تُعرِّف جنسنا. وبالمقارنة، يعاني البشر البدائيون من تناولٍ إعلاميٍّ سيِّئ منذ اكتشاف أول هياكل عظمية لها في وادي نياندر بالقرب من مدينة دوسلدروف الألمانية، في القرن التاسع عشر.
وبينما فشل عالم الأحياء الألماني الراحل إرنست هيكل في إقناع زملائه العلماء بتسميتهم بـ"Homo stupidus"، أي "البشر الأغبياء"، كان البشر البدائيون لا يزالون يُنعتون بأنهم غير قادرين على إدراك المفاهيم الأخلاقية أو التوحيدية، ويُشبَّهون بالقرود.
وقال جواو زيليو، الباحث البرتغالي بجامعة برشلونة الإسبانية: "هذا ينهي النقاش حول البشر البدائيين في رأيي. إنهم جزء من عائلتنا، وهم أسلافنا. لم يعانوا في الإدراك ولم يكونوا أقل موهبةٍ من حيث الذكاء، إنهم فقط نوع من الجنس البشري لم يعُد موجوداً فحسب".
لكن بعض العلماء يبدون حذرهم بشأن هذه الادعاءات، إذ قال آدم بروم، عالم الآثار في جامعة غريفيث بمدينة بريسبان الأسترالية: "من الممكن أن يكون البشر البدائيون قد نفَّذوا بعض أنواع الفن الصخري، لكني لا أعتقد أن هذا مُثبت بشكلٍ كافٍ هنا". ويعتقد آدم أن العلماء ربما حددوا تاريخ قشورٍ كلسيةٍ لم تكن تغطي هذه الرسومات؛ ما يعني أنهم توصلوا إلى تواريخ الطبقات الصخرية فقط وليس الأعمال الفنية نفسها.
ويتساءل آدم أيضاً ما إذا كانت التكوينات الصخرية التي تشبه الستائر والموجودة في كهف أرداليس قد خُضِّبت بشكلٍ طبيعيٍ ولم تُطلَ.
واكتشف كليف فينلايسون، أستاذ علم الحيوان ومدير متحف جبل طارق، نقشاً صخرياً صُنِعَ بواسطة البشر البدائيين، وعثر على الدليل أنهم ربما زيّنوا أنفسهم بمخالب النسور الذهبية وغيرها من الطيور الجارحة. رحب فينلايسون بهذه الأعمال، لكن قال إنه كان من المستحيل استبعاد المُبدعين الآخرين للفن الإسباني، مثل إنسان دينيسوفان الغامض وبعض الأجناس المجهولة حتى الآن.
وقال فينلايسون: "يجب أن تبقى أذهاننا منفتحةً. من الذي كان هنا أيضاً؟".
فن الكهوف
في حين كان علماء آخرون أقل تشككاً، إذ قال فيل روبروكس، أستاذ علم الآثار القديمة بجامعة لايدن الهولندية، إن هذه الأعمال تمثل تقدماً هائلاً في مجال دراسات التطور البشري.
وأضاف روبروكس قائلاً: "يُعد مفهوم فن الكهوف الذي أبدعه البشر البدائيون منذ 65 ألف سنةٍ على الأقل مثيراً ومدهشاً بالتأكيد، بل ويصعب على البعض تقبله. أود أن أستمع إلى المحادثات التي سيثيرها ذلك في بعض الأوساط، حيث ما زال يُنظر إلى البشر البدائيين ككائنات أقل سلوكياً من البشر الجدد المعاصرين. البشر البدائيون أبدعوا فنَّ الكهوف، تعاملوا مع الأمر".
وتتمثَّل المهمة المقبلة للفريق في إدراك ما إذا كان فن البشر البدائيين واسع الانتشار، من خلال التوصل إلى تاريخ ودراسة الرسومات الموجودة على كهوفٍ في فرنسا ودول أخرى.
وقال بايك: "قد يساعدنا ذلك في الاقتراب قليلاً مما تعنيه هذه الرسومات".
وإذا كان البشر البدائيون هم أول فناني هذا العالم، فإن هذا سيثير التساؤل عما كان بإمكانهم أن يحققوه إذا لم ينقرضوا. وقال بايك: "إذا منحت البشر البدائيين 40 ألف سنةٍ أخرى، ربما كانوا سيصلون إلى القمر".