في هذه اللوحة المشهورة، يحاول الفنان دي كيريكو ابتداع لغة مرئية عن عبثية الوجود وهشاشة الحياة وغموض المصير.
وقد استخدم الرسّام في اللوحة المنظور المائل والطويل والفراغات الكبيرة والظلال السوداء والممتدّة، ولجأ إلى تصغير الأشخاص وجعلهم يتوارون في خلفية المشهد. كما وظّف الأشكال والأجسام خارج سياقاتها الطبيعية من اجل خلق أجواء من الغموض والعزلة والترقّب.
ارتبط اسم دي كيريكو بمفهوم الرسم الميتافيزيقي. وتغلب على لوحاته مشاهد لأماكن مقفرة ومهجورة ودخان غامض وعربات أشبه ما تكون بالتوابيت، وذلك لتكثيف الشعور بعالم الماورائيات والغيب.
يقول بعض النقّاد إن لوحات دي كيريكو أسهمت بشكل كبير في نشوء السوريالية. وقد قرأ السورياليون لوحاته من منظور فرويدي في الغالب ووظّفوا في أعمالهم بعض الثيمات التي استخدمها دي كيريكو في لوحاته كالجوّ السكوني والصمت المطبق والتماثيل والأعمدة القديمة والأضواء الخفيّة التي تبعث في النفس إحساسا بالتوجّس والرهبة.
ولد دي كيريكو (أو تشيريكو كما ينطق اسمه أحيانا) في اليونان لأبوين ايطاليين. لكنه عاش الجزء الأكبر من حياته في إيطاليا. وقد كان قارئا نهما للفلسفة وتأثّر كثيرا بأفكار نيتشه الذي كان يرى في كل شئ محسوس معنى خفيّا. كما تأثّر بفلسفة شوبنهاور الذي دعا الإنسان لأن يكتشف الجوهر الحقيقي للأشياء وذلك بعزل نفسه عن العالم كي يبدع أفكارا خلاقة وخالدة.
علاقة دي كيريكو الوثيقة باليونان القديمة وبالثقافة الهيلينية تزاوجت مع تقديره وشغفه بالفنّ الكلاسيكي الايطالي. وكان للأساطير الإغريقية تأثير عظيم عليه خاصّة في مستهلّ حياته، حيث رسم العمالقة ومخلوقات القنطور وآلهة الأوليمب. وبعض لوحاته المبكّرة رسم فيها مناظر للخيول التي سبق وأن رآها في مسقط رأسه باليونان. وفي ما بعد، تكرّرت صور الخيول في أعماله ومن بينها منحوتة برونزية صوّر فيها منظرا لخيول قديمة تقف في البرّية.
عندما زار دي كيريكو باريس سنة 1911 لم ينجذب للتكعيبية أو التجريدية اللتين كانتا في حالة صعود آنذاك. وقد نالت أعماله التي عرضها هناك بعض الثناء من شخصيات بارزة مثل الشاعر ابولينير الذي وصف دي كيريكو بأنه "عدوّ الأشجار وصديق التماثيل".
أهم ملمح في هذه اللوحة هو المنظور الذي استخدمه الرسّام كأداة فلسفية وشعرية وانفعالية. وهناك أيضا العلاقة بين الفضاءات حيث الأبنية والتماثيل والأشخاص منفصلة تماما عن بعضها البعض وعن الواقع، وتعطي شعورا باللانهائية وانعدام الإحساس بالزمن.
"غموض العصر" ليست منظرا طبيعيا بل صورة ذهنية عبّر الفنّان من خلالها، وباستخدام التجريد والمجاز، عن قلق الإنسان وخواء الحياة.
من أشهر لوحاته الأخرى أغنية الحبّ التي يقال بأنها مهدّت لظهور المدرسة السوريالية في الفنّ.