غموض هذه اللوحة المشهورة كان وما يزال مثار جدل منذ أن ظهرت قبل خمسة قرون.وإلى اليوم، ما تزال تستعصي على محاولات الفهم والتفسير. وقد ألّف عن اللوحة أكثر من كتاب لعلّ أهمّها كتاب سوزان فوستر ومارتن وايلد بعنوان سرّ السفيرين.
ويحسن في البداية إلقاء نظرة سريعة على تفاصيل اللوحة التي قد تعين على فهم بعض رموزها ودلالاتها.
هناك أوّلا الرجلان الواقفان إلى يمين ويسار اللوحة. كلا الرجلين كانا مقرّبين من الملك هنري الثامن ومن أصحاب الحظوة عنده. الفنّان نفسه كان رسّام البلاط. الرجل إلى اليسار هو جان دي دينتيفيل سفير فرنسا لدى انجلترا. والثاني إلى اليمين هو جورج دي سيلفا وهو راهب ورجل دين مرموق. وجها دي دينتيفيل ودي سيلفا يبدوان مألوفين. تنظر إليهما للحظات فيسهل عليك تذكّر ملامحهما وتعابير وجهيهما بعد حين.
الملاحظة الأخرى هي كثرة التفاصيل الدقيقة في اللوحة. ومن الواضح أن كلّ جزء وتفصيل فيها رُسم بواقعية شديدة لدرجة أنها لا تبدو مختلفة عن الصورة الفوتوغرافية. الأشياء التي تفصل بين الشخصيتين تمثّل رموز الآداب والمعارف التي كانت مزدهرة خلال عصر النهضة الأوربّية كالرياضيات والمنطق والموسيقى والهندسة والفلك والخطابة.
لباس الرجل إلى اليسار يبدو دنيويا خالصا، بينما يرتدي الرجل الآخر ثيابا لا تترك مجالا للشك في انتسابه إلى طبقة رجال الدين. طريقة وقوف الشخصين لافتة للانتباه. فهما يبدوان ساكنين وهادئين في مكانهما كما لو أنهما يتهيّأن لالتقاط الصور.
العناصر والأشياء التي تزدحم بها اللوحة كلّها ممّا يسترعي الاهتمام. سطح الطاولة العلوي مغطّى بسجّاد شرقي رُسمت خيوطه ببراعة نادرة. وعلى الطاولة أيضا أدوات رياضية وفلكية متعدّدة. يمكن أيضا رؤية آلة لتحديد الوقت وإسطرلاب وكرة تمثّل الأرض. وعلى الجزء السفلي من الطاولة نرى كتابين وكرة أخرى مجسّمة للأرض وآلات هندسية بالإضافة إلى آلة عود "أو لوت" بوتر مقطوع. الموزاييك على الأرضية يشبه ذلك الذي تُفرش به أرضيّات الكنائس. هناك أيضا الخلفية ذات الحرير الأخضر. وفي أقصى الزاوية العلوية اليسرى يظهر تمثال فضّي صغير يصوّر حادثة الصلب.
لكن اللوحة تخفي جسما غريبا لا يمكن تبيّنه بوضوح إلا عند النظر إليها جانبيا. هذا الجسم هو الجمجمة الظاهرة في منتصف الجزء السفلي وقد رُسمت بطريقة غريبة تبدو معها قريبة الشبه بالسمكة.
وهناك احتمال أن يكون الفنّان رسم الجمجمة بهذه الطريقة المشوّهة كي يصعب على الناظر تمييزها أو التعرّف عليها للوهلة الأولى ولكي يركّز الاهتمام، من ثمّ، على التفاصيل الأخرى للوحة. وربّما أراد الرسّام من خلال الجمجمة أن يصوّر حضور الموت في العالم وأن يقول إن كلّ هذه الثروة والأبّهة والفخامة والسلطة والعلوم لا يمكن أن تحجب الطبيعة الفانية للإنسان. في ذلك الوقت راجت بين الرسّامين الفكرة التي كانت تنقل الحضور البارد للموت إلى خلفية الحياة اليومية. وشيئا فشيئا تطوّرت الفكرة وأصبحت رمزا للحقيقة المختبئة وراء المظاهر السطحية للأشياء.
كان عصر النهضة بالنسبة للكثيرين عصر انبعاث العلوم وازدهار الحرّيات والفلسفة. وقد شاع وقتها توظيف المنهج الأرسطي الداعي إلى كشف البُنى الرياضية والفلسفية التي تكمن وراء الأحداث والظواهر المادّية. غير أن عصر النهضة شهد أيضا توتّرات وأحداثا مؤلمة أتى على ذكرها المؤرّخون.
والسياق التاريخي التي رُسمت فيه اللوحة يشير إلى أن الصراع كان على أشدّه بين هنري الثامن والكنيسة الكاثوليكية. ومن الأشياء التي يُحتمل أن تكون رمزا لذلك الصراع في اللوحة كتاب الترانيم المفتوح والعود ذو الوتر المقطوع الذي قد يكون رمزا لحالة الانقسام والخصومة التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
وقد كان هذان السفيران يحاولان إصلاح ذات البين بين الملك والكنيسة للحيلولة دون أن يتطوّر الصراع إلى حرب على الأرض.
لكنْ كانت هناك صراعات أخرى بين انجلترا من جهة وبين غيرها من القوى الاستعمارية الكبرى من جهة أخرى. ولم يكن العالم الإسلامي نفسه بمنجاة من هذا الصراع كما قد توحي بذلك رمزية السجّاد الشرقي في اللوحة.
الأشياء والرموز المتقابلة التي تمتلئ بها اللوحة يمكن أن تكون مفتاحا لفهم الأسئلة أو التصوّرات التي أراد الرسّام طرحها من خلالها. فهو، مثلا، يضع الديني أو الروحي مقابل الدنيوي أو الزمني، والعقل مقابل الروح.. وهكذا.
هل يدعو الرسّام إلى الموازنة بين هذه العناصر؟ هل يلمّح إلى تناغم الدين مع رأس المال أو العكس؟ هل يشير إلى سيطرة المادّية على تفكير الإنسان؟ هل يريد التأكيد على أن الجوانب الروحانية أهمّ من خبرات الإنسان التي يكتسبها في الحياة؟
لا جواب واضحا. الشيء الوحيد الواضح هو أن مضمون هذه اللوحة الغامض يفتح الباب واسعا أمام الكثير من التأويلات المختلفة والمتباينة.
قضى هانز هولبين معظم حياته في انجلترا ورسم أكثر لوحاته عندما كان يعمل في بلاط الملك. ومن أشهر لوحاته الأخرى البورتريه الذي رسمه للملك هنري الثامن وبورتريه آخر مشهور رسمه للمفكّر والسياسي البريطاني السير توماس مور. واللوحتان، بالإضافة إلى هذه اللوحة، هي اليوم من ضمن مقتنيات الناشيونال غاليري في لندن