الفنّان الروسي من أصل يوناني ارشيب كوينجي رسم الليل في واحدة من أكثر اللوحات شهرة في تاريخ الرسم والتي اكتسب الرسّام بفضلها شهرة أسطورية. اسم اللوحة ليلة مقمرة على ضفاف نهر الدنيبر. وقد رسمها في العام 1882م.
عندما عرض الرسّام هذه اللوحة لأوّل مرّة في سانت بطرسبيرغ اصطفّ الناس في طوابير طويلة لرؤيتها. وقد وُضعت داخل غرفة مظلمة، بينما صُفّت حول إطاراتها المذهّبة والفخمة شموع محترقة.
في اللوحة، يصوّر كوينجي إحدى ليالي اوكرانيا الشاعرية والدافئة. القمر الفضّي يطلّ من أعلى المشهد محاطا بهالة خضراء من الغيوم. وفي أسفل المنظر يظهر شريط متوهّج من نهر الدنيبر الذي يفيض فوق مساحات واسعة من السهوب.
ربّما لم يعبّر رسّام من قبل عن سحر وجمال القمر بهذا الشكل المدهش. الصورة تثير إحساسا بالحرّية واللانهائية. فأمامنا عالم واسع مليء بالضوء. وكلّ ما في هذه الطبيعة مشرق وبهيّ. الضوء الفوسفوري الغامض يغمر كلّ شيء على الأرض.
كان على الجمهور أن يدخلوا إلى القاعة ذات الأنوار الخافتة قبل أن يتوقّفوا أمام وهج الضوء البارد المنبعث من اللوحة. بعضهم كان يظنّ أن مصدر الضوء ربّما يكون فانوسا أو مصباحا موضوعا بالجوار. المجال السماويّ الذي رسمه الفنّان فيه فخامة وجلال. قوّة الكون وضخامته تتجلّيان بأوضح صورة في هذا المشهد. التفاصيل على الأرض تتضمّن بيوتا وأشجارا كثيفة ونباتات شوكية ابتلعتها الظلمة.
هذه اللوحة استنسخت مرّات كثيرة في جميع أنحاء روسيا وتحدّثت عنها الكثير من الصحف آنذاك. وقد ابتاعها الأمير الروسي كونستانتينوفيتش الذي شُغف بها منذ رآها لأوّل مرّة. وبلغ من حبّه للوحة انه كان يأخذها معه في تطوافه عبر العالم. وقد حاول الروائي ايفان تورغينيف، الذي كان يعيش في باريس في ذلك الوقت، إقناع الأمير بعرض اللوحة في احد الغاليريهات الفرنسية، لكنه رفض.
لوحات ارشيب كوينجي تتّسم بالتصوّرات التأمّلية والفلسفية عن العالم. كما أن فيها إحساسا بعظمة الحياة. ولم يكن يهتمّ بتصوير الحالات الدراماتيكية للطبيعة، ولا حتى مظاهر الجمال فيها. كان معنيّاً أكثر بتصوير الإحساس بالكون ووحدة الوجود والتناغم ما بين الطبيعة والإنسان.
الألوان الفوسفورية في اللوحة تستحضر مشاعر متسامية وتثير التأمّل عن طبيعة الحياة على الأرض وعن عالم السماء التي تبدو وهي تتحرّك في إيقاع بطيء. وبعض لوحات الرسّام الأخرى تصوّر عوالم تبدو أشبه ما تكون بالكواكب البعيدة التي لم تُكتشف بعد.