يقول مؤرّخ الحواسّ مارك سميث: من الملاحظ أننا نعيش في عالم يتطلّب منّا إعمال جميع الحواسّ كي نبحر فيه. ومع ذلك وبطريقة أو بأخرى، فإننا نفترض أن الماضي يتكوّن من روائح".
إن وضع الروائح في سياق تاريخي معناه أن نضيف بعدا كاملا للكيفية التي نفهم بها العالم. هناك، على سبيل المثال، مكان ما في خليج بوسطن يمتلئ في أوقات مختلفة بروائح المستنقعات المالحة والخيول وعوادم السيارات. بعض الروائح تتلاشى بسرعة، وتظهر مكانها روائح جديدة. وبعضها يتحوّل ويتغيّر بطريقة تخبرنا عن قصّة ثقافية. نفحات الياسمين والجلود من عطر شانيل عام 1927 تساعدنا على فهم النساء الاندروجينيات في ذلك العصر. ونفحة الحلوى المنبعثة من أحدث عطور فيكتوريا سِكرِت تقول لنا شيئا ما عن الأنوثة في عالم اليوم. وما نشمّه في مدننا ومنازلنا والمساحات الطبيعية في البيئة المحيطة بنا ما هو إلا جزء من حياتنا، تماما مثل الأشياء التي نراها ونسمعها ونلمسها.
الشمّ حاسّة فريدة من نوعها من بين جميع الحواسّ، من ناحية طريقة معالجتها في الدماغ. فالمعلومات الشمّية تسافر مباشرة إلى تلك المناطق من الدماغ المسئولة عن الذاكرة والمشاعر.
ويقول العلماء إن الطريقة التي تتمّ بها معالجتها تجعل رائحة الذكريات قويّة جدّا وثابتة. ولكنْ خارج ذاكرتنا، فإن الروائح نفسها سريعة الزوال. فهي تتشكّل من مركبّات كيميائية متطايرة وهشّة يمكن أن تتحلّل وتتبدّد بسهولة. لذا فإن الرائحة هي جزء قويّ من تجاربنا. لكنها في نفس الوقت عنصر سريع الزوال.
وحيث أن الروائح ليست في ثبات الأجسام الصلبة، فقد أوجدت التكنولوجيا وسائل لجعلها أقلّ زوالا وتلاشيا. إذ يمكن حفظ العطور لفترات طويلة من الزمن بإبقائها بعيدا عن الضوء والأوكسجين. ويمكن في كثير من الأحيان تحليل الروائح المحيطة وتقطيرها لتحويلها إلى صيغ كيميائية. ثم يأتي بعد ذلك دور العطّارين المهرة الذين يعيدون تخليقها صناعيّاً.
من روّاد هذا الطريقة كيميائي سويسري يُدعى رومان كيسار طوّر عام 1970 تقنية جعلت من الممكن التقاط وتحليل جزيئات الروائح المنبعثة من الأزهار وغيرها من الأشياء.
وفي ما بعد، أي في العام 1995، ألّف كيسار كتابا بعنوان "الأزهار المتلاشية" ضمّنه رسوما توضيحية لنباتات نادرة ومهدّدة بالانقراض. ثمّ اقنع شركة جيفودان التي كان يعمل عندها، وكانت وقتها اكبر شركة للعطور والنكهات في العالم، بأن تسمح له بالشروع في إنشاء مصنع للروائح.
وطوال السنوات العشر التالية سافر كيسار إلى مختلف بلدان العالم ليلتقط روائح المئات من النباتات المهدّدة بالانقراض. وكتابه الصادر مؤخّرا بعنوان "رائحة النباتات المندثرة" يحتوي على قوائم بالموادّ الكيميائية التي تمثّل صيغة كلّ رائحة. كما نجح أيضا في إعادة تخليق العديد من هذه العطورات صناعيا.
وكان هدفه أن يبيّن للناس جمال الروائح العطرية في الطبيعة. لكن للكتاب أيضا قيمة علمية مهمّة. فبفضل المعلومات والتجارب الواردة فيه، سيكون بالإمكان، مثلا، بعد مائتي سنة من الآن إعادة بعث روائح النباتات الموجودة هذه الأيّام عندما تكون جميع هذه النباتات قد انقرضت من على سطح الأرض.
وقد استخدمت شركات صناعة العطور، مثل كريستوفر بروسيوس الأمريكية، هذه الطريقة لإعادة إنشاء روائح أقلّ وضوحا، مثل رائحة معطف فرو قديم أو غلاف كتاب ورقي مهتريء. وهذه الطريقة يمكن أن تكون بداية لبناء قاعدة معلومات واسعة. تخيّل وجود مكتبة للروائح الخاصّة بزمن أو مكان معيّن، على غرار مكتبة الكونغرس للكتب.
ليس مستغربا أن تكون صناعة العطور في طليعة المحافظين على الروائح. وهناك مؤسّسة تدعى اوزموثيك ومقرّها فرساي بـ فرنسا تحتفظ بمجموعة من العطور المهمّة تاريخيا في صيغها الأصلية. وقد وُضعت هذه العطور في قوارير مبرّدة من الألمنيوم. كما تمّ استبدال الهواء في كلّ قارورة بالأرغون، وهو غاز خامل لا يتفاعل مع العطور كما يفعل الأكسجين، ما يساعد على إبقاء الروائح في حالة مستقرّة مهما مرّ عليها من زمن.
باتريشيا دي نيكولاي، صانعة عطور ورئيسة اوزموثيك، أطلقت مؤخّرا عطرا أسمته "قبّلني برِقّة"، وهو عطر حسّاس استلهمته من قاعدة عطر كان مشهورا في القرن التاسع عشر. تقول دي نيكولاي: أحيانا عندما تصادف عطورا قديمة جدّا، يمكنك أن تعثر على فكرة منسيّة تماماً. وهذا في حدّ ذاته مصدر إلهام".
لكن ماذا عن الروائح التي اختفت بالفعل؟
اوزموثيك قامت، وباستخدام ملاحظات دوّنها احد مساعدي نابليون، بإعادة بناء كولونيا صُنعت خصّيصا للزعيم الفرنسي أثناء وجوده في منفاه في جزيرة سينت هيلينا قبل وفاته في العام 1821م.
عندما كان الأستاذ الجامعي جيمس ماك هيو يعمل على أطروحته في الدراسات السنسكريتية والهندية في جامعة هارفارد، وجد ثروة من المعلومات الشمّية في النصوص السنسكريتية القديمة. كانت تلك المعلومات تتضمّن خلطات وصيَغاً تفصيلية عن العطور والبخور وتعليمات استخدامها، فضلا عن أوصاف الروائح التي كان يستخدمها قدماء الهنود في حياتهم اليومية. وأصبح ماك هيو مهتمّا بتحويل هذه القوائم من الكلمات إلى أشياء ملموسة. وقد أثارت جهوده تلك اهتمام شركة لودامييل، ما أدّى إلى صنع سلسلة من العطور على أساس هذه الصيغ القديمة.
يقول ماك هيو إن النصوص التي كانت مكتوبة في الغالب من قبل الأثرياء البراهمة تذكر بعض الروائح بطريقة إيجابية وأخرى بطريقة سلبية. لودامييل استخدمت هذه الأوصاف لخلق نوعين من الرائحة يمثّلان الأفكار المثالية للبراهمة: الأول مكوّن من الزبدة والحليب وأزهار المانغو والعسل وخشب الصندل. والثاني، الذي يشبّهه ماك هيو بالكابوس، قوامه روائح الدخان واللحم المتعفّن والكحول والثوم.
لكن الهدف الأكثر طموحا من الناحية العلمية هو أن علماء الآثار يستخدمون الآن تقنيات تحليلية حديثة في محاولة لجلب الروائح القديمة وإعادتها إلى الحياة. وقد قاموا بتحليل البقايا العضوية المتخلّفة عن القطع الفنّية لدراسة النظام الغذائي وأساليب الطبخ في الثقافات القديمة، ثم بدءوا استخدامها في دراسة العطور.
المتحف المصري التابع لجامعة بون، على سبيل المثال، يعمل الآن على تحليل وإعادة بعث العطر الفرعوني الذي كانت تستخدمه الملكة المصرية حتشبسوت، اعتمادا على بقايا زجاجة يعود تاريخها إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة عام. ويخطّط المتحف لإعلان التفاصيل قريبا. ويقول أمينه أن العطر يحتوي على أكثر من ثمانين مكوّناً.
من المثير فعلا أن ندسّ أنوفنا في عبق الماضي. لكن ليس كلّ المؤرّخين على ثقة بأننا يمكن أن نعرف أعمق الحقائق عن الماضي من خلال إحياء مثل هذه الروائح. ويقول بعض العلماء انه حتى لو استطعنا إعادة إنتاج روائح من الماضي إلا أننا لن نستطيع استخدامها بنفس الطريقة.
المؤرّخ مارك سميث يعتقد أن دراسة الرائحة والحواسّ الأخرى مهمّة، شريطة أن توضع في سياقها الصحيح. وهناك أمثلة لا حصر لها تشرح كيف أن الظروف تؤثّر على الطريقة التي ننظر بها إلى الروائح. على سبيل المثال، أصبحت شجيرة الشاي الكندي المسطّحة ذات شعبية في صناعة العلكة ومعاجين الأسنان في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. لكن بالنسبة للبريطانيين، فإن هذه الشجيرة تذكّر برائحة المرض، لأنها كانت تُستخدم في صنع المراهم التي كانت تُعالَج بها جروح الجنود. وإذا لم نفهم هذه المعاني، فإننا فقط نشمّ الماضي كما نفعل الآن، وليس كما كان الناس يشمّونه في ذلك الوقت.
غير أن هذا الكلام ينطبق على أيّ تجربة تاريخية. خذ مثلا لوحة زيتية من عصر النهضة. قد تعني اللوحة لنا شيئا مختلفا جدّا عمّا كانت تعنيه للناس في ذلك الوقت. ومع ذلك فإننا ما نزال ندرك قيمتها ونقدّرها. وكما يمكننا وضع الملابس والأمكنة القديمة في سياق تاريخي، يمكننا أيضا أن نفهم المزيد من معاني العطور وغيرها من روائح الحضارة والطبيعة.
كما أن بإمكاننا أن ننظر إلى الماضي بطريقة أكثر شمولا من خلال إشراك أجزاء من الدماغ بشكل مباشر وبأكثر ممّا يمكن أن توفّره حاسّة الإبصار لوحدها.
كحاسّة كيميائية، فإن الشمّ له ارتباط وثيق بما يجري الآن وفي هذه اللحظة بالذات. وبالنسبة للناس اليوم، فإن إضافة روائح لما هو موجود لدينا بالفعل، سواءً كان مصدرها النباتات المنقرضة أو السجّلات والتحف الفنّية القديمة، يمكن أن يعمّق ارتباطنا بالعالم ويوسّع فهمنا له بطرق وأساليب جديدة.