تصادف اليوم الذكرى السادسة والاربعون لاستشهاد وصفي التل الذي غادرنا أخضر يانعا قبل الاوان ، مؤديا ضريبة الشرف والموقف التي دفعها بدمه الارجوان، عندما نالت منه رصاصات صدئة في القاهرة يوم 28 تشرين الثاني 1971، ليعانق عطر الشهادة وقد أزهر دمه الارجوان شيحا ودحنونا فوق الارض الطيبة، فيما كانت اذاعة عمان التي اسسها وصفي على تقوى الاردن ، تبث رائعة فيروز الغنائية موطن المجد .. وقلنا لهم فيما بعد لماذا هذه الاغنية تحديدا؟.. فقالوا ان الشهيد كان يعشق هذه الرائعة الغنائية الوطنية.. لأن الاردن في عرفه موطن المجد . منذ تلك اللحظة.. أطلق الناس على مواليدهم اسم وصفي تأسيا بفارس الشهادة وعميدها، ومزهريات الورد في البيوت هنا تحيط بصورته في برواز القلب، وهو يثني شماغه على كتفه، دون ألوان.. بالابيض والاسود ، ونظرته تشي بفروسية الموقف ورجولة فارس لن يتكرر..
تستعرض «الدستور» في هذا السياق مواقف من سجله الناصع بمواقف المجد والكرامة.. العزة والإباء.. الشموخ والإنتماء:
صاحب ولاية
يقول المهندس وهدان عويس في كتابة «العودة الى الهداة» أن نقابة المهندسين الاردنيين انتدبته مع المهندس نبيه العبوة لحضور اجتماع في بيروت تم تخصيصه لوضع النظام الاساسي لإتحاد المهندسين العرب، وظهرت في المؤتمر نقطة خلافية بين ممثلي نقابة المهندسين في سوريا ونقابة المهندسين في مصر حول مقر المؤتمر هل يكون في دمشق أم في القاهرة ، وكان رأي الوفد الاردني مؤيدا لمصر، وقد صوت الحاضرون على ذلك بالاكثرية .
وبعد عودة عويس والعبوة تم طلبهما لمقابلة مدير المخابرات العامة انذاك الباشا محمد رسول الكيلاني في مكتبه بجبل عمان، وقد ابدى اعتراضه على موقفهما بدعم القاهرة لتكون مقرا للمؤتمر بدلا من دمشق، وقام الكيلاني بإصطحاب المهندسين عويس والعبوة بسيارته الى مكتب رئيس الوزراء انذاك وصفي التل وبدأ الكيلاني حديثه باتهامهما بأنهما من أنصار جمال عبدالناصر وقال من يريد من الاردنيين ان يتبع عبدالناصر فليحمل أمتعته ويرحل عن الاردن.. وعندها قال وصفي التل همسا للمهندسين وهدان ونبيه: «طولوا بالكو يا اخوان في حكومتين في البلد» .... وقال التل للكيلاني: يا باشا هؤلاء شباب مخلصون وهم في خدمة الاردن دائما ، وأنا أعرفهم ، لذا أرجو أن تنسى الموضوع وتطوى القضية، وهكذا ونتيجة لتدخل وصفي التل لم يقم الكيلاني باعتقال وهدان عويس ونبيه العبوة .
الضريح من حجر معان
وهنا نتوقف عند ورقة بخط اليد حصل عليها كاتب هذه السطور بخط زوجة التل المرحومة سعدية الجابري حول ضريح وصفي جاء فيها: ان الشخص الذي ساعد في بنائه على الشكل العربي الإسلامي هو الشيخ عمر الهشلمون الذي كان خبيراً في فن الهندسة الإسلامية وعمره تسعون عاماً، وكان يرسم على البلاط خطوط القباب والإيوان الصغير والكبير على الأرض وينقلها سلاح الهندسة إلى الموقع، وكان الشيخ عمر الهشلمون حرفياً يعرف صنعته وسر المهنة، وقد ساعدني في عمل الشبابيك التي تسمى الزلاق التي تدخل شمس الشروق من أحدها وشمس الغروب من الثاني، وعلى دائرها من الأسفل عملنا ثمانية شبابيك مغلقة وقد استعملت في هذا البناء الحجر الأردني من معان والزرقاء، وقد بنيناها من الداخل ومن الخارج بالحجارة فلا يوجد فيها أي قصارة ولا أي خطوط، وقد عمل الحرفيون جهدهم على أن يكون وصل الحجر بعضه مع بعض بدون تكحيل، وبدون إسمنت، وبطريقة لا ترى.
أما بالنسبة للقبب، فقد كانت مهمة صعبة وقد كان عندي بعض الشكوك في حينها، فالقبة على السطح تشكل غرفة لها باب مستقل وقد تيقنت بعد ذلك بوجود مثل هذه القباب في العالم الإسلامي، وفي الداخل ولكي يفصل الضريح عن المحراب استعملنا مشربيات وجدتها في مصر وعددها ستة من الخشب القديم، وللجامع مساحة في الخارج للصلاة، وقد ساعد في البناء الحاج صلاح من الخليل، فقام بعمل هلالين من الحجر بشغل يده وهو شقفة واحدة فوق القبة.
هذا المجرم
تشير المعلومات ان الطلقة التي قُتل فيها الشهيد وصفي التل خرجت من مسدس احد اطراف العملية الجبانة المجرم «عزت رباح» والذي قُتل في 1982 على يد الكتائب في لبنان .
رفض ترخيص
وهنا.. ولمن لايعلم، فقد رفض الشهيد وصفي التل فكرة السماح بترخيص المدارس الخاصة في الأردن، لأنه يعرف تماما ما يعانيه المواطن الأردني من شح في الموارد والإمكانيات المادية، لذلك أراد التل ان يكون المعلم الأردني نموذجا في العطاء، بعيدا عن المغريات المادية، لدى من أراد أن يتاجر في قضية التعليم في الأردن، وكان المعلم الحكومي عند حسن ظن الشهيد وصفي التل به.
ثقة مطلقة
اما علاء علاء الدين نجل قائد القوات الخاصة اللواء الركن المرحوم احمد علاء الدين الشيشاني فيقول: رحم الله وصفي التل فقد كان من مدرسة الراحل الحسين، يثقون بالرجال الرجال، وكان لوالدي كامل الصلاحيات لعمل ما يراه مناسبا ايام احداث الأمن الداخلي المؤسفة، وحينما لم يرق ذلك للبعض كان وصفي يدافع عن قرارات والدي رحمه الله كونه يقاتل في الميدان وبعض القرارات لا يمكن تأجيلها لحين انتظار امر او تعليمات، بحيث وفي حال تاخرت تلك الأوامر يمكن خسارة ارواح او مناطق لصالح العصابات الخارجة على القانون، وكان والدي رحمه الله دائم الاجتماع مع الشهيد وصفي لاطلاعه على كل المستجدات الميدانية والعسكرية وكل التفاصيل كبيرها وصغيرها كون اي معلومة مهما كان حجمها تساعد اصحاب القرار لاتخاذ القرار السليم والصحيح، وعليه كانت علاقتهما رحمهما الله علاقة ثقه أكيده ومحبة كبيرة عنوانها ومضمونها «الأردن الهاشمي».
حدث في الإذاعة
الزميل الاعلامي عبدالمنعم ابوطوق الثمانيني المتمتع بذاكرته الزاخرة قال ان وصفي المتواضع الطيب المحب للعمل، وهو الذي دخل في ذات زمن جميل، لتفقد مرافق مؤسسة الاذاعة والتلفزيون، فدخل الى دورة المياه، ليجد ان اطراف ارضية البلاط فيها شيء من السواد ، فقال للعامل المكلف بذلك: لماذا لم تنظفها؟.. ليرد العامل انه حاول لكنها بقيت.. فما كان من وصفي الا ان شمر عن ساعديه ، وتناول فرشاة يدوية خشنة ، بعد ان سكب الماء والمنظف فوق البلاط، واصبح يمسح البلاط بشدة، ثم سكب الماء عليه، وقال للعامل ها هو البلاط رجع ابيض طخ لانج بيوج وج .. بس انت يا ابني مابدك تتعب بشغلك!.
شاهد عيان
يقول الزميل عبدالحليم السعايدة: انه وقبل استشهاد وصفي التل كان لي معه قصة رائعة حيث حدثت مشكلة بين مجموعة من الطلبة وانا احدهم مع فرح الزيود ويوسف زيادات وجميعنا طلاب ننتمي لعشيرة عباد وبين أستاذ وطالب أثر مشاجرة مع أحد الطلبة كان قد اساء لاحد رموز الدولة الاردنية، وعلى أثر ذالك قامت إدارة المدرسة بفصلنا من المدرسة وانتلقنا إلى مدرسة اخرى ولكن لم نستطع دفع الرسوم مرتين، وعلى اثر ذلك ارسلنا برقية إلى دولة الشهيد التل وبعد يومين جاء الرد التالي: عبدالحليم ورفاقه أرحب بكم يوم الثلاثاء الساعه الثانية بعد الظهر والبرقية وصلت إلى العنوان الجديد للمدرسة الحسينية الثانوية واحضرها الاستاذ فوزي بالي، وفي الموعد المحدد ذهبنا إلى دار رئاسة الوزراء وكانت حينها على الدوار الثالث، ودخلنا مكتب دولته وكان يرتدي فوتيك وشربنا القهوة وعرفنا بانفسنا ورحب بنا، وقمنا بشرح ما حدث لنا، وقال التل: ابشروا انتم نشامى وقال سأعاقب كل من أساء لكم.. ثم سأل كم الرسوم قلت 80 دينارا لنا جميعا، فسحب من جيبة الفوتيك 80 دينارا، وقال: هذا مصروف لكم.. والطلبة جميعهم احياء.
لسه نايم
يقول الدكتور عوني تغوج الشركسي: حدث عندما كان وصفي التل رئيسا للوزراء ان هطلت ثلوج كثيرة، واتصل وصفي بالاشغال ليزيلوا الثلوج.. وتم ذلك ليلا حتى يتمكن وصفي من الذهاب الى عمله.. عند الصباح اتصل وصفي بعمي والد زوجتي المسؤول في وزارة الأشغال طلعت فريز النابلسي مستفسرا فرد عليه بعفوية: انت لسّه نايم، اي قوم وافتح الشباك وشوف .. سلام خلينا نشتغل.. ضحك وصفي وتأكد وشكره.. وقد قدم لعمي طلعت فريز النابلسي وساما عن طريق وزارة الاشغال.
رأي محايد
من جانبه قال الكاتب والباحث السياسي النائب السابق حمادة فراعنة: لم أكن من أتباع الراحل وصفي التل ، ولن أكون ، ولم أكن كارهاً له ، والشيء المؤكد لن أكون ، وربما يعطيني هذا الموقف هامشاً موضوعياً للحكم له وعليه ، كمواطن يؤمن بالتعددية ، والتعددية هنا في بلادنا سمة أصيلة نتاج الواقع الإجتماعي التعددي لبنية المجتمع الأردني ، من عرب وأكراد وشركس وشيشان وأرمن وربما غيرهم ، ومن المسلمين والمسيحيين والدروز وأتباعهم ، ومن الوطنيين والقوميين واليساريين والإسلاميين وربما غيرهم ، ولذا ستختلف الرؤى والمواقف في تقييم الأحداث والأشخاص لدى الأردنيين وإتجاهاتهم وقياداتهم ، إعتماداً على تعددية المواقف والسياسات والأفكار التي تحكم نتاج أفعالهم وتقيمهم للأحداث .
واضاف فراعنة: من هذه الخلفية يمكن التوقف لتقييم الرجل الراحل ، الذي شكل ويشكل حالة مميزة لدى الأردنيين من إتفقوا معه ومن خالفوه ، ولكن الغالبية تدين له بالشجاعة لوطنيته وقوميته وإنحيازه لفلسطين واقعاً وألماً وقضية ورفضاً لعدو ومشروع إستعماري فُرض على الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين بقوة السلاح والمؤامرات والإتفاقات الدولية ، وبسبب ضعف جبهتنا الوطنية القومية الدينية في مواجهة الجبهة الأقوى التي فرضت الإحتلال وشرّعت مشروعه الإستعماري بلا حق وسلبت شعب فلسطين أرضه وحقوقه وكرامته ودفع الأردنيون إلى جانب اللبنانيين والسوريين حصيلة الإحتلال والإغتصاب والنكبة وتشريد نصف الفلسطينيين ليكونوا لاجئين في لبنان وسوريا والأردن .
واشار الفراعنة الى ان وصفي التل لم يكن خنوعاً مستسلماً لهذا الواقع ولهذا المعطى فعمل على تغييره بإتجاهين أولهما تصليب الموقف الأردني وتعزيز الجبهة الداخلية وحماية الأمن الوطني ، وثانيهما دعم وإسناد الشعب الفلسطيني على أرضه ، وإبقاء قضيته حية ، فإصطدم مع من يخالفه الرأي ، والمصلحة والأولويات ودفع ثمن ذلك ، ثمن التباين مع خيارات القيادة الفلسطينية ، وعلينا أن نتحلى بالشجاعة والمروءة لإقرار وجود تباين في الأولويات بين الحركة السياسية الفلسطينية الناشطة في المنفى وبين مصالح البلدان العربية المحيطة بفلسطين ، فقد وقع الصدام الأردني الفلسطيني ، واللبناني الفلسطيني ، والسوري الفلسطيني ، بسبب غياب الأولويات وتضارب المصالح والأمن الوطني لكل طرف .
كان ذلك حتى إستطاع الرئيس الراحل ياسر عرفات نقل الموضوع الفلسطيني من المنفى إلى الوطن بفعل الإنتفاضة الجماهيرية الشعبية في مناطق الإحتلال الثانية عام 1967 ، في الضفة والقدس والقطاع من بداية عام 1987 ، وبأدوات مدنية وسلاحها الحجر ، أرغمت إسحق رابين « كاسر الأيدي والعظام « من التسليم ببعض الحقائق ، والإعتراف المثلث : بالشعب الفلسطيني وبمنظمة التحرير وبحقوق الشعب الفلسطيني ، ونتيجة هذا الإعتراف الذي تمت مراسيمه في ساحة الورود في البيت الأبيض يوم 13/9/1993 ، جرى الإنسحاب الإسرائيلي التدريجي من المدن الفلسطينية ، من غزة وأريحا أولاً ، وولادة السلطة الفلسطينية ، وعودة أكثر من 320 الف فلسطيني لأول مرة إلى وطنهم ، وإجراء الإنتخابات الرئاسية والتشريعية للسلطة الفلسطينية ، وهكذا نجح الرئيس الراحل ياسر عرفات بإعادة العنوان الفلسطيني إلى أرضه ومسامات شعبه ، وبات الصراع واضحاً جلياً قوياً متمكناً بين الشعب الفلسطيني وبين عدو الشعب الفلسطيني ، والشعب الفلسطيني لا عدو له ، سوى عدو واحد هو : إسرائيل التي تحتل أرضه ، وتصادر حقوقه ، وتنتهك كرامته.
واضاف: وبفعل ذلك وعلى أثرها سقطت الخلافات الأردنية اللبنانية السورية مع الفلسطينيين ، وتحولت التباينات بين الشقيق وشقيقه وتعارض المصالح بينهم إلى حقائق جعلت من الأردنيين جميعهم بلا إستثناء يقفون في نفس الخندق الداعم لصمود الفلسطينيين على أرض وطنهم الذي لا وطن لهم سواه ، ومساندين لتطلعاتهم نحو إستعادة حقوقهم في العودة والإستقلال ، عودة اللاجئين والنازحين إلى المدن والقرى التي طردوا منها وتشردوا عنها وإستعادة ممتلكاتهم منها وفيها وعليها ، والإستقلال في إقامة دولتهم المستقلة على أرض وطنهم فلسطين .
ولفت الى ان نضال الأردنيين مع الفلسطينيين يحقق الغرضين : أولهما حماية الأمن الوطني الأردني ضد الأطماع التوسعية الإستعمارية الإسرائيلية بجعل الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين ، وثانيهما دعم شعب شقيق يستحق من الأردنيين وواجبهم الوطني والقومي والديني والإنساني ، إسناده لإنهاء معاناته وتشرده وحرمانه حق الحياة الطبيعية على أرض وطنه .
وبين فراعنة ان وصفي التل ، كان كذلك ، كان يحلم بذلك ، كان يعمل على ذلك ، ومن هنا قيمة إنصافه كوطني أردني بإمتياز وكقومي عربي أدرك موقفه ومكانته ، لحماية وطنه وأمنه الأردني أولاً ، ودعم شقيقه الفلسطيني ثانياً .
واكد لم يكن وصفي التل وحده يمثل ذلك وسقط شهيداً نتيجة سوء الفهم والتقدير وعلو الخلافات وشيوع التباينات بل إن هزاع المجالي سقط شهيداً مثله لنفس الأسباب والدوافع ، وربما لولا هذه التضحية من قبل قيادات بهذا المستوى لما صمد الأردن ، ولما أدرك الحسين الراحل أهمية تماسك الجبهة الوطنية وإزالة التباينات وإحترام التعددية وعدم النيل من المعارضة وعدم البطش بها ، حتى من أشد خصومات النظام في الخمسينيات من قبل الأحزاب والضباط الأحرار والمحاولات الإنقلابية الفاشلة ، وفي نهاية الستينيات والسبعينيات من قبل الفصائل الفلسطينية .
وختم فراعنة: يستحق وصفي التل ، ومن قبله هزاع المجالي ، ومن بعدهما وفي طليعتهما الحسين الراحل ، كل الوفاء والتقدير والعرفان ، فقد عملوا وضحوا حتى يعيش الأردنيون بكرامة ورفع رأس نتباهى بها ونعمل لأجلها ، ومن أجل إستعادة الهوية الفلسطينية والحفاظ عليها وتطويرها حتى تتم إستعادة كامل حقوق شعبنا العربي الفلسطيني الثابتة غير المنقوصة : حقه في العودة وحقه في الإستقلال.
عمان - الدستور- محمود كريشان