Off Canvas sidebar is empty

مهرجان الحكاية في صفاقس « حتى الحجر يحكي »

منى وفيق - صفاقس

هل تونس حقا مريضة هذه الأيام ؟ تتساءل المرة تلو الأخرى و أنت تملأ صدرك بالهواء القليل المتاح بين الأزقّة الضيقة لصفاقس ( عاصمة الجنوب التونسي) ، أزقّة «  عنّقني » كما يحلو للصفاقسيين تسميتها ، فهي تجعلك قابلا لأن تحضن الشخص القادم من الجهة الأخرى لمساحتها الضيقة أوّلا ولحميميتها ثانيا .

هل تونس حقا مريضة هذه الأيام ؟ تتساءل المرة تلو الأخرى و أنت ترى المدينة برمّتها محتفية بمهرجان الحكاية في نسخته الخامسة ، والذي ‫اختتم‬ قبل أيام رافعا شعار «  حتى الحجر يحكي » .. ومادام «  الحجر » يحكي في صفاقس و في غيرها من المدن التونسية فتونس إذن مصرّة على أن تكون بخيربل هي فعلا بخير.

 الحكاية فنّ أدبي و إنساني توارثته الأجيال و مرّرت عبره القيم الإنسانية و التجارب المعرفية و سعت الى تهذيب النفس و اطلاق الخيال و ايقاظ الحسّ الشعري لدى الأفراد  ، فكان كلّ جيل ينقل الحكاية  بطريقته الخاصة الى الجيل الذي بعده ، لكنّ الحكاية وهي تعبر بين الأزمنة لم تتغير كثيرا ، هذا ما تصادق عليه بعد أن تحضر عروض مهرجان الحكاية تحت اشراف ورعايةجمعية دنيا الحكاية في صفاقس و بدعم مادي من مؤسسة المورد الثقافي و من المندوبية الجهوية للثقافة و مركز الفنون الدرامية و الركحية .


افتتحت الدورة الاخيرة من مهرجان الحكاية بالحكايات النموذج للعروض قبل أن تتوالى العروض بمشاركة حكواتيين محترفين من فرنسا«  مارتين كايا » و « كلير كرانجون » ، »  جيرار لوكا » ، من بلجيكا «  كريستين اندريان » ، من تونس «  عبد الرزاق كمون «  ، «  رائدة مزيد القرمازي «  . حكواتيون قدموا عروضهم الممتعة والشيقة والهادفة في كلّ من مركز الفنون الدرامية و الركحية بصفاقس و غيره من المؤسسات التربوية والثقافية والاجتماعية إضافة إلى دار المحامي و كذا دار فرنسا بصفاقس  .  

 العروض التي تنوعت  بين تلك  الخاصة بالكبار و أخرى بالصغار ، بين حكايات أبدع فيها أطفال مكفوفون ، أطفال ينتسبون لمدارس خاصة و آخرون لمدارس حكومية و أطفال آخرون في وضعيات صعبة مختلفة ، أحسنوا جميعهم استلاب الجمهور و حمله الى عالم من الفرح و الحلم فكان الكل يخرج بالحكمة في يد و المتعة في اليد الأخرى .

لم يكن يهم كثيرا الحكواتية الفرنسية الشهيرة  «  مارتين كايا » أن يفرّق الجمهور بين واقعية و خيال حكاياتها، بين إمكانية حدوثها أو كونها حدثث بالفعل ، بقدر ما كانت تواقة لان تلمس حكاياتها الروح المبدعة للمستمعين ، كانت تنظر في أعين الصغار و الكبار تارة وتارة أخرى تباغت أحدهم بسؤال بطريقة ذكية و طريفة  لتتأكد من أنّها لم تسبقهم وهي تمشي داخل حكايتها بل يمشون معها جنبا الى جنب .
الحكاية بالنسبة ل » كايا » التي أدارت مهرجانات حكاية عديدة في العالم ( بنين ، الجزائر ، موريتانيا ، ألمانيا وبلجيكا ) هي المشاركة ، الالتقاء بالآخر و معرفته و التماسّ معه و تفهّمه و أخيرا النجاح في الوصول الى محبته و حبّه في آن.

أما «  كلير كرانجون » الحكاءة عمّا يزيد عن 15 سنة ، فكنت تخالها للمرة الأولى تحكي للصمّ والبكم ، لقد كان جسدها يحكي في تناغم ملفت مع صوتها و كانت حكاية صغيرة وحيدة عن المرأة والرجل كفيلة بأن تجعل الجمهور يطالبها بها في كلّ عرض جديد كانت تقدمه .
 «  كرانجون » تعترف أنها ليست أي عابرة بل إن قصصها القديمة والعالمية تجعلها الصوت الذي تنتظره آذان الجميع وهي مستعدة على أية حال لإعطاءه لكل حكواتي مقبل همّه الأوحد هو زيادة الثروة المعرفية و الحسيّة للعقل والعاطفة البشرية.

مواطناهما الفرنسيان «  جيرار لوكا » و «  فرانسوا كرانج » كانا يقتربان من المتلقي بسيط الفرنسية بالصور والأقنعة و الحركات ، فاللغة لم تكن العائق السلطوي بالنسبة لهما ، حكاياتهما قويّة الرمز ومختلفة الحساسيات كانت تبحث عن مستمع جيد قادر على التماهي مع رمزية الحكاية وعمقها البعيد . « جيرار » يحكي وهو يتصبب عرقا ، يحب أن تأخذ حكاياته وقتها الكامل ومساحاتها الشاسعة المعنى والمبنى، وتلك حقيبته لا تفارقه فهو ينتهي من حكاية هنا ليبدأ هناك حيث يبدأ الشغف ولا يستمر ..
في حين أن «  فرانسوا كرانج » تخلى عن عمله كفيزيائي و توجه لقراءة كتب القصص وكان يجد كل المتعة في نقلها للجميع ، دراجته النارية من الحجم الكبير تنتظر عند الباب دائما لأن لديه موعدا في إحدى مدن تونس ليحكي و يستفز المخيلة والفرح في كل تونسي .

قريبتهم الاوروبية «  كريستين اندريان » البلجيكة النشاة والمولد ، مديرة بيت الحكاية ببروكسيل ، تمرّر عبر حكاياتها ذاكرتها وذكرياتها ، حكايات أدبية و نصوصا حياتية ، تحب أن تشم البهجة في عيون مستمعيها ، تشمّ بعينيها و ترى بأنفها الروائح التي خّلفها عبورها أمامك ، أمامك تماما ، تشوّقك الى النهاية و تتلقفك ببساطة ، بمنتهى البساطة بعد أن تكون قد قطعت أنفاسك و ملأتك بالانتظار .

و إذا كان لمهرجان الحكاية بصفاقس جدّة فرنسية فله جدّ تونسي بالماوازاة ، «  عبد الرزاق كمون » الحكواتي التونسي الحكيم صاحب الشعبية الواسعة في تونس والعالم العربي حيث نشّط بحكاياته « معرضي صفاقس لكتاب الطفل و معرض الشارقة الدولي للكتاب ) و حمّل الجمهور حكاياته في الاردن و الجزائر المغرب .
هذا الحكواتي الجوال ، المبدع الممتع ، تتعبك قصصه ، تجعل مخيلتك تركض في سباق محموم مع عقلك ، ليصل هو الى النهاية في حين تكون انت لا تزال تبحث عن منشفة و كأس ماء ريثما تعاود الجري ومحاولة اللحاق به .. وتنجح في ذلك فقط عندما تجلس الى نفسك و تبدأ في حكي حكاياته من جديد الى ملابسك و كتبك و المرآة في غرفتك .

أما التونسية «  رائدة مزيد القرمازي » فيبدو أن تجربتها المسرحية كان لها بالغ الاثر في طريقة حكيها ، فكأنها حكواتية «  الوان مان شو «  التي تضمّ خشبة المسرح لها لتصير واحدا من الجمهور ، رائدة التي تكفلت باعادة كتابة حكايات شعبية لاعادة تقديمهافي شكل جديد يمزج بين التراث و الثقافة وقد نجحت في رهانها الفرجويّ ذي القيمة العالية .

ولأن الختام دائما يكون مسكا ، فقد أبهر العرض الختامي الذي قدمه الفنان الكوريغرافي طارق بوزيد الحضور ، العرض الذي حمل عنوان حتى « الجسد يحكي » جعل اجساد الجمهور تنطلق من الداخل لتلتقي مع اجساد العارضين فتلك تحكي وهاته تتلقى و تردّ .

لقد نجح مهرجان الحكاية في صفاقس بفضل جهود ذاتية لجمعية دنيا الحكاية ( تحت ادارة عبد اللطيف معطر و وحيد الهنتاتي)  في صفاقس ، هذه الجمعية التي جعلت من صفاقس عاصمة للحكواتيين في الوطن العربي ، نجح بفضل جهود ذاتية وبعيدا عن اي دعم حقيقي وملموس لوزارات السياحة او الثقافة و التربية رغم أن هذه الاخيرة قدمت دعما رمزيّا للغاية لا يتوافق مع طموحات المهرجان و أهدافه .


الحكاية قادرة على فكّ أي اشتباك أو صراع ، والحكاية التونسية بذلت ما استطاعت في احتفاليتها الثقافية لتُخرج التونسيين ولو لبعض الوقت من همومهم الوطنية و قلقهم على تونس ،رغم ان العروض التونسية خاصة تقاطعت كثيرا مع انشغالات الفرد التونسي و همومه الوطنية والخاصة .