طليطله - لقرونٍ عديدة، كان زوار الدول الأوروبية الأخرى ينبذون دولة إسبانيا. لم تكن المشكلة أنَّ شوارع المدينة غير ممهدة، أو أنَّ طرقها الجبلية القاسية لا تتلاءم مع عجل العربات، لكن ما كان يقض مضاجع الزوار هي الطريقة التي تسامحت بها إسبانيا مع الأقليات الدينية. فإلى نهاية القرن الخامس عشر، كان اليهود والمسلمون الذين تتزايد أعدادهم، ويمثلون نحو 10% من إجمالي السكان، يمارسون طقوسهم الدينية بفخرٍ وحرية. وقال أحد الزوار ساخراً: "نحن الألمانيين نلقبهم بالفئران".
كانت التلميحات الواضحة هي أنَّ إسبانيا ليست دولة أوروبية أصيلة، وكيف تصبح كذلك وهي تتحمل أناساً كهؤلاء؟ فالأوروبيون يجب أن يكونوا مسيحيي الديانة فقط، لذلك لاقت الملكة إيزابيلا الأولى ملكة قشتالة، والمعروفة بدورها في تشكيل الهوية الإسبانية، وزوجها فرديناند الثاني ملك أراغون، استحساناً عظيماً من كل صوبٍ وحدب عندما طردا اليهود من إسبانيا عام 1492، وفعلت إنكلترا الشيء نفسه قبل قرنين. وأثار سقوط غرناطة، آخر ممالك المسلمين في إسبانيا، والتي كان يحكمها الملك أبو عبد الله، في العام نفسه بهجةً واسعة، وكان هذا السقوط هو موضوع الكتاب الرائع "The Moor’s Last Stand" للكاتبة إليزابيث درايسون، بحسب قراءة قدمتها صحيفة الغارديان للكتاب.
واتبعت إيزابيلا الأولى وزوجها سقوط غرناطة بإجبار المسلمين الإسبانيين على التحوُّل للمسيحية. لكن هذا كله لم يكن كافياً بالنسبة لبعض الأصوليين مثل مارتن لوثر، أو الفيلسوف توماس مور ذي الورع المزعوم، والذي لعن الإسبانيين بوصفهم "يهوداً عديمي الإيمان وموراً مُعمَّدين". وكردٍ على ذلك، طرد فيليب الثالث ملك إسبانيا في بدايات القرن السابع عشر 300 ألف من أحفاد المسلمين الإسبانيين المتحولين للمسيحية، ويطلق عليهم تعبير المور. وكانت الضريبة البشرية مُروِّعة، لكنَّهم ظنوا أنَّ إسبانيا بذلك أخيراً صارت نقية.
يبدو هذا كله مألوفاً وسط ما يحدث الآن في الأوقات العصيبة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود مارين لوبان السياسي في فرنسا، وفوز ترامب برئاسة أميركا. ويرى ماثيو كار، صاحب الكتاب الرائع: Blood and Faith الذي يتتبع النهاية المأساوية للمور، أوجه شبهٍ واضحة بين الماضي، وبين "جدالات الحاضر العنيفة، والمتعصبة، والغاضبة" حسب وصفه، فطرد المور عام 1609 كان "جريمةً إنسانية هائلة" يجب أن نتعظ منها الآن حسب ماثيو.
احتضنت إسبانيا لوقت طويل الأديان السماوية الثلاثة. ظهرت اليهودية أولاً، ثم أحضرت الفيالق الرومانية المسيحية، أما الإسلام فجاء بالقوة العظمى حين اجتاحت جيوش إفريقيا الشمالية إسبانيا في القرن الثامن، مما أدى للمحاولات المسيحية الطويلة بعدها لاستعادتها، والتي أنهتها إيزابيلا وفرديناند في غرناطة. وفي قرطبة المسلمة، كان الكتبة يُنتجون 60 ألف كتاب سنوياً، في حين كانت تنتج أكبر المكتبات في أي مكان آخر في أوروبا 600 كتاب فقط. وكُتبت النقوش في مقبرة فرديناند الثالث ملك قشتالة، والذي مات عام 1253 باللاتينية، والعربية، والإسبانية، والعبرية، وفي الوقت نفسه كانت إسبانيا تتباهى لكونها تضم أكبر عدد للسكان اليهود في العالم.
ولكن لم يجعلها هذا بلدةً مثالية متعددة الثقافات. فنعمة التعايش الإسبانية المُفترضة كانت مبالغاً فيها بشدة. وعلى سبيل المثال، بحلول وقت حكم أبي عبد الله، كان المسيحيون المتبقون في غرناطة -بحسب الغارديان- هم العبيد، واللاجئون، والتجار المُصرَّح لهم بالتجارة، وفي المقابل، تساهلت إسبانيا المسيحية مع الأقليات الدينية، لكنَّها لم تعاملهم أبداً من مبدأ المساواة، بل صاروا تحت حماية الملوك الشخصية، وهو الأمر الذي يفسر إيمان إيزابيلا بأنَّ "كل اليهود في مملكتي ملكي"، تفعل بهم ما يحلو لها.
وفي أراغون، الجزء الشرقي من إسبانيا الذي تحكمه عائلة فرديناند، كان يقدَّر عدد المور، أو السراسنة، وهو الاسم الذي عُرفوا به ولقبوا أنفسهم به، بنسبة 30% من السكان في بعض المناطق، حيث كانت عمالتهم الرخيصة تعمل بممتلكات النبلاء. وكانت هناك مقولة شائعة تقول: "من يملك المور، يملك الذهب"، وكان جيرانهم المسيحيون الحقودون يتحولون بين تارةٍ وأخرى إلى حشودٍ غوغائية بفعل المُبشِّرين الشعبويين. ومع وجود هذا العنف المستمر، لم يكن التحوُّل "الطوعي" للمسيحية طوعياً بالمرة. ولهذا تحول الكثير من اليهود في القرن الرابع عشر إلى المسيحية. ويفسر ذلك أيضاً لماذا أُسِّسَت محاكم التفتيش، مع اعتقاد إيزابيلا، الخاطئ في هذه الحالة، بأنَّ معظم العائلات المنحدرة من السلالات اليهودية تدَّعي اعتقادها بالمسيحية. أمَّا في حالة المور، كان العكس هو الحقيقة، فقليلون جداً منهم اعتنقوا المسيحية. وبالنسبة للمعاصرين حينها، كان رجال التطهير العرقي والديني بمثابة الأبطال، وعلى الرغم من النفور الذي يثيره الحديث عن محاكم التفتيش الآن، فإنَّها لم تكن تسبب القلق حينها، إذ كانت في كل الأحوال أقل فظاعة ووحشية من مطاردة الساحرات التي استشرت في معظم أنحاء أوروبا.
ما شهدته إسبانيا من أحداثٍ محورية عام 1492 لم تشهده سوى أماكن وفترات زمنية قليلة في هذا العالم. ففي هذا العام بدأ كريستوفر كولومبوس رحلته الاستكشافية للبحث عن آسيا، لكنَّه وجد الأميركيتين بدلاً منها، وغرس علم قشتالة والملكة إيزابيلا هناك، ثم بدأ بعدها في تغيير معالم العالم بتبادل أنواع النباتات والحيوانات بين القارات، في حين قام بتصدير الرعب متمثلاً في بارود المسدسات، و أعواد الصلب المدبب، ومرض الجدري. وبدأت رحلته كذلك عملية نقل النفوذ العالمي التي استمرت لقرون بعيداً عن الشرق المتطور الذي لا يدين بالمسيحية إلى أمم حياة البحار الوعرة على حافة المحيط الأطلسي (والتي ستبدأ بعدها بفترةٍ قصيرة في نقل العبيد عبر المحيط الأطلسي). ولكن، وعلى الرغم من صدمة المسيحيين لخسارتهم القسطنطينية لصالح الأتراك، ما زال الحدث الرئيسي عام 1492 هو سقوط غرناطة.
قامت درايسون بعمل رائع بالتركيز على تفاصيل قصة أبي عبد الله، الحاكم الأخير من سلالة بنو نصر في غرناطة. كان منزل سلالة بنو نصر في قصر الحمراء الرائع الذي يطل على غرناطة لوقتٍ طويل -بحسب الغارديان- موطناً للخداع وإراقة الدماء. فحين اتخذ والد عبد الله أمة مسيحية كزوجة له، شعرت عائشة، والدة أبي عبد الله الأرستقراطية، بالإهانة، وفي النهاية انقلب أبناؤها على الأب، بينما انحاز أقارب آخرون لجانب الأب، وتناقل حكم المملكة من مجموعةٍ لأخرى. وكان مشهد أبي عبد الله رائعاً حين دخل المعركة على ظهر حصانه الأبيض، مرتدياً الديباج والمخمل، وعلى رأسه خوذة ذهبية حمراء داكنة، لكنَّه كان قائداً عسكريا سيئاً، إذ أُسر مرتين من قبل خصومه المسيحيين، وفي المرتين، اشترى أبو عبد الله حريته بالتعهد بقتال أقربائه.
وكانت للمدافع القشتالية العديدة، التي جعلت تحصُّن أهل القلاع والمدن داخل الأسوار وانتظار انتهاء الحصار أمراً لا فائدة منه، دوراً كبيراً في سقوط غرناطة، كالدور الذي لعبه الاقتتال بين أبناء سلاسة بنو نصر. وقال أبو عبد الله وهو يسلِّم مفاتيح أرقى مدن إسبانيا: "ها هي مفاتيح هذه الجنة". وتقول الأساطير أنَّه سار بحصانه بعيداً صاعداً المكان المعروف الآن باسم "ينبوع الدموع"، وخلال مروره بقومه من المور وحسرته على خسارته قالت له أمه: "ابكِ مثل النساء مُلكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال".
كانت شروط الاستسلام جيدة بالنسبة للمسلمين، إذ سُمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية، وكُفِلَت لهم حق حرية العقيدة وأنَّه "لن يُجبر أيٌ من المور على اعتناق المسيحية". أما أبو عبد الله فلم يحظ بنفس التساهل، فقد كشفت درايسون الطرق العديدة التي عُوقِبَ بها الملك النصري، الذي مُنح في البداية أراض في بلدة ألبوخارا دي لا سييرا القاسية القريبة من غرناطة، ثم تعرض لضغوطٍ لمغادرة إسبانيا إلى شمال إفريقيا بعدها بسنوات.
وبعد إزاحة أبي عبد الله، تراجعت إيزابيلا وفرديناند عن وعودهم، وأُجبِرَ مسلمو قشتالة على الدخول في المسيحية. ولكن كان هؤلاء المور المسيحيون يُعامَلون وتُفرَض عليهم الضرائب باعتبارهم ليسوا "مسيحيين حقيقيين"، وخضعت عاداتهم الثقافية، كالأغاني، والرقص، والملابس، وصبغة الحنة إلى قواعد صارمة، حتى الاغتسال كان يمكن أن يسبب لهم مشاكل حقيقية. وحافظ نوعٌ سري من الأدب الممنوع كان يُكتَب بالإسبانية بحروفٍ عربية على إبقاء الإسلام حياً، وكان العديد من المور، إن لم يكن معظمهم، ما زالوا مسلمين سراً حين أجرى فيليب الثالث آخر محاولاته القاسية للتطهير الديني.
في القرن السابق لهذه الأحداث، كانت إسبانيا قد وضعت أساس أول إمبراطورية عالمية، ورأى البعض أنَّ طرد المور، الذين خلَّفوا وراءهم قرى مهجورة، وأراضي بور، ومدناً ناضبة، كان هو بداية انحدار إسبانيا. ومدح المؤرخون البريطانيون المؤيدون للفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين، كلويس برتراند والسير تشارلز بيتري، طرد المور، والذي بالنسبة لهما حال دون تحول إسبانيا "إلى واحدةٍ من تلك الدول الوضيعة التي يعيش فيها الأجانب ويستغلونها". أمَّا كار، فيرى أن هذا كان مثالاً على "أغلبيةٍ قوية تسعى إلى إعادة إنتاج أو تعريف هويتها الثقافية من خلال القضاء على الأقليات غير المتوافقة معها".
وهنا تكمن المشكلة، إذ أنَّ القرن العشرين يقدم بوضوح أمثلة وثيقة الصلة بمسألة الطرد والإقصاء. كما يوضح القرن العشرين أنَّه، بما أن الأمثلة تتضمن ما ارتكبته ألمانيا النازية، أنَّ الإقصاء والاضطهاد الديني والعرقي لم يكن ظاهرة غربية أو مسيحية فقط. وربما تكون الحكمة الأبرز التي يمكن استخلاصها من التاريخ الإسباني هي ما قاله الكونت كابرا، أحد أمراء المسيحيين في إسبانيا، لأبي عبد الله بعد أسره في إحدى المعارك: "كما أنَّ الماضي المجيد لم يستمر، فكذلك مصائب الحاضر، يمكن أن تتغير بنفس الطريقة".