تدمر - في مسرح تدمر الكبير، حيث كان الناس يحتشدون قبل ألفي عام لمشاهدة مسرحيات يوربيديس وسوفوكليس، حدثت قبل أشهر مفارقة لافتة. فقد حوّل مقاتلون متشدّدون، ومعظمهم مراهقون، المكان إلى ساحة لحفلات إعدام جماعية لأفراد من الجيش السوريّ النظاميّ.
وكانت هناك مفارقة أخرى، ففي هذه المنطقة التي كانت تحكمها ملكة قويّة في العصور الخوالي، أصبحت النساء اللاتي لا يخضعن للأفكار المتزمّتة لهذه الجماعات يُعاقَبن ببيعهنّ في سوق الرقيق.
ربّما لهذا السبب تكتسب قصّة الملكة السورية زنوبيا أهمية خاصّة هذه الأيّام، إذا ما تذكّرنا جرائم هذه الجماعات ضدّ النساء ورفضها للحداثة واضطهادها لأتباع الديانات الأخرى وإلغاءها للتاريخ.
كما أن قصّة زنوبيا تسلّط الضوء على الأدوار المهمّة للنساء في المجتمع والسياسة وتدحض الفكرة القائلة أن انجازات العالم القديم يُعزى فيها الفضل تحديدا وحصرا إلى الغرب.
وسيرة حياة زنوبيا تذكّر أيضا بنساء أخريات خُضن ميادين السياسة وحكمن دولا وممالك في الشرق القديم، مثل بلقيس، ومثل الملكة أروى بنت احمد الصليحي التي كانت أوّل ملكة في الإسلام وحكمت اليمن لأربعين عاما، ومثل تين هينان ملكة الطوارق التي وحّدت قبائل الامازيغ وأسّست لهم أوّل مملكة في الجبال تحت زعامتها في القرن السابع الميلادي.
أسماء زنوبيا كثيرة: زينب، الزبّاء، وبات زاباي "بالآرامية". المؤرّخ غيبون أسهب في وصف جمالها وقوّة شخصيّتها. وتشوسر ذكرها في "حكايات كانتربري". والطبريّ أكّد على نسَبها العربيّ وأشار إلى أن اسمها "زينب".
ومنذ القرن الرابع عشر، ظهرت أعمال أدبية ومسرحية كثيرة تتحدّث عن هذه المرأة وعن حياتها. وهي أحيانا تنافس كليوباترا في جمالها وتأثيرها. والحقيقة انه من الصعب فصل الحقيقة عن الأسطورة في سيرتها. لكن يمكن القول أنها كانت إحدى أنبل وأذكى النساء في الشرق.
والد زنوبيا كان قاضيا على تدمر، وعائلتهم تمتّ بصلة قرابة لبعض قبائل الصحراء العربية. وكانت ثقافتها مزيجا من العربية واليونانية.
بدأت تدمر كواحة ومركز للتجارة في صحراء سوريا الشرقية. ثم انفتحت المدينة على العالم، وأصبحت القوافل القادمة من الصين والهند والجزيرة العربية تمرّ عبرها في طريقها إلى روما. وبعد ذلك، ضمّها الرومان إلى إمبراطوريّتهم، ونالت المدينة تحت حكمهم قدرا كبيرا من الاستقلال الذاتيّ الذي لم يُمنح لأيّة مدينة من قبل.
وهناك قصّة تُروى عن والد زنوبيا، الزعيم الصحراويّ الكبير الذي كانت له زوجات وأبناء كثر. إذ يقال انه كان بحاجة إلى ابنة كي تبرم بالنيابة عنه الاتفاقيات مع القبائل المجاورة. ولم يمضِ وقت طويل حتى رُزق بزنوبيا.
كانت امرأة مثقّفة تجيد لغات عديدة، بالإضافة إلى اللغتين العربية والآرامية. وقد أحضرت من أثينا معلّما يونانيّا مشهورا كي يكون معلّمها ومستشارها. وبمساعدته أسّست مدرسة للفلسفة في مدينة آفاميا المجاورة.
مجتمع تدمر كان وثنيّا في غالبيّته، لكن كان المسيحيون واليهود يشكّلون جزءا من نسيجها الاجتماعيّ والدينيّ. وثمّة احتمال بأن زنوبيا نفسها كانت من يهود العرب بحسب بعض الروايات.
وقد تزوّجت في ما بعد من اوديناتوس "أو أذينة" ملك تدمر بعد أن وافقت على أن تصبح زوجته الثانية. لكن في ما بعد، أي في عام 267، اغتيل الزوج مع أحد أبنائه فنصّبت نفسها ملكة على تدمر. وكان غريبا أن يحدث مثل هذا في قلب العالم الذكوريّ للصحراء العربية.
وخلال ثلاث سنوات من حكمها لتدمر، شنّت زنوبيا هجوما على مصر اليونانية. وبحلول عام 270، كانت قد استولت على أكثر أراضي مصر وسوريا وآسيا الصغرى، أي حوالي ثلث أراضي الإمبراطورية الرومانية. ثم لم تلبث أن أعلنت استقلالها عن روما.
وقد انزعج الرومان من قرارها بالانفصال. وبينما كانت تعزّز سلطتها، توالى على حكم روما ثلاثة أباطرة. لكن عندما تسلّم الإمبراطور اورليانوس السلطة، اثبت انه أكثر مقدرة من أسلافه.
في البداية، كان اورليانوس منشغلا بحملاته في الغرب، ولمّا انتهى وجّه أنظاره نحو تدمر وزنوبيا. كان يدرك خطورة استيلائها على مصر، لذا أرسل احد جنرالاته لاستعادتها على الفور.
ثم أتى اورليانوس بنفسه إلى سوريا، وأحكم الحصار على تدمر. وقد سعت زنوبيا إلى طلب المساعدة من الفرس الساسانيين الذين كانوا يشاطرونها كراهيتها للرومان.
وذهبت إلى فارس بالفعل على ظهر جمل، لكن اورليانوس علم بهربها فأمر بأسرها. وقُبض عليها في منطقة قرب نهر الفرات وسُلّمت إليه. وبعد أن علم أهل تدمر عن أسر ملكتهم، فتحوا أبواب المدينة طوعا أمام الجيش المنتصر.
وكما تقضي أعراف الرومان الفاتحين، أُخذت زنوبيا المنهزمة مع أبنائها إلى روما بعد أن قُيّدت يداها ورقبتها بسلاسل من ذهب وعُرضوا في شوارع المدينة.
لكن اورليانوس احترم عدوّته السابقة ولم يسمح بإذلالها وأعفاها من المصير الذي يلقاه عادة أعداء روما المنهزمين الذين كانوا يعادون إلى السجن بعد عرضهم أمام الناس ثم يتمّ خنقهم في طقوس خاصّة.
وبدلا من ذلك، مُنحت زنوبيا منزلا عاشت فيه حياة هادئة حتى أواخر أيّامها، ورأت أبناءها يتزوّجون من أنبل عائلات روما، أو هكذا تقول الأسطورة.
ومن حسن الحظّ أن كتابات أشخاص مثل بوكاتشيو وتشوسر وغيبون هي التي أبقت على قصّة هذه المرأة حيّة في الأذهان عبر العصور المتعاقبة.
في أواخر تسعينات القرن الماضي، بثّ التلفزيون السوريّ مسلسلا عن حياة زنوبيا شاهده الكثيرون في أرجاء العالم العربيّ. وبعد سنوات من بثّ ذلك المسلسل، تحوّلت سوريا إلى واحد من أكثر الأماكن عنفا ومأساوية في العالم.
الفظائع الرهيبة التي ارتكبتها أطراف الحرب هناك تتناقض مع أجواء تلك الدراما التي مات لاعبوها قبل ألفي عام وما يزال لها صلة بعالم اليوم.
زنوبيا هي قصّة امرأة عربية أصبحت أيقونة بتجسيدها القوّة الفكرية والبطولة الأخلاقية للنساء في الشرق. فقد تحدّت قوّة روما، أعظم امبراطورية في ذلك الوقت. وكادت تنجح في تأسيس دولة مستقلّة عندما طلبت من الرومان أن يعترفوا بها كشريكة مساوية في الحكم.
ربّما كانت طموحات زنوبيا اكبر من إمكانياتها. لكن فكرة أن تكون إمبراطورة عربية أنثى مساوية لسلطان روما ما تزال تثير الفضول وتشغل أحلام الكثيرين. ويبدو من المناسب هذه الأيّام أن تعاد هذه المرأة إلى مكانها الذي تستحقّه في الذاكرة الشعبية.
في زمن تالٍ، وبالتحديد عام 1400م، اكتسحت جيوش المغول تدمر ونهبتها قبل أن تختفي هذه المملكة نهائيا في غياهب النسيان. ولم تُكتشف أطلال المدينة إلا في القرن الثامن عشر، لتتحوّل بعد ذلك إلى واحد من أشهر وأهمّ المواقع الآثارية والتاريخية في المنطقة.