نيس - انجز المخرج الروسي اندريه تاركوفسكي فيلمه المعنون "حنين" أو (نوستالجيا) كما في تسميته الأصلية، اثناء اقامته في إيطاليا، قبل رحيله عن الدنيا العام 1986.
يغوص الفيلم في دواخل اكاديمي وفنان روسي يسافر إلى إيطاليا في مهمة عمل، وهناك تنتابه احاسيس ومشاعر متدفقة، البعض منها يدور حول اقامته في وطنه روسيا، وما تحمله من هواجس وافكار واشجان، والبعض الآخر تجاه ما وجده في ايطاليا من براعة الامكنة المعمارية والجماليات التي ابدعتها انامل العديد من الفنانين التشكيليين والنحاتين في اكثر من حقبة زمنية.
تتنوع تفاصيل الفيلم ، الأشواق ولحظات الحنين التي يبثها المثقف الروسي سواء تلك الذكريات عن مسقط راسه في الوطن، وآمال وطقوس روحية في مرتع طفولته الخصب، أو ما تنطوي عليه رحلته في ايطاليا من شغف وتعلق بمفردات عالمه الخاص، عاينتها كاميرا تروتسكي المتمرس في تصوير هذا النوع من النزعات والذكريات الحميمة، وهي تلتقط مناظر شديدة الجاذبية في افتتان بليغ بالامكنة والافراد والجماعات لحظة تواجدهم في لجّة من التحولات العصيبة.
اختار المخرج تاركوفسكي الذي كان يقطن في اوروبا في عزلة اختيارية بعيدا عن وطنه ابان حقبة الاتحاد السوفييتي السابق، شخصية الفيلم الرئيسة لاستاذ جامعي صاحب شهرة عالمية في معرفة بتاريخ الآثار تتاح الفرصة الاطلاع على جماليات الاثار والمعالم المعمارية التاريخية في ايطاليا، وهو في الوقت ذاته يبحث عن صديقه الموسيقار الروسي الذي استقر به المقام في ايطاليا قبل ان يقرر العودة الى مسقط راسه ليقضي فيه ايامه الاخيرة موت مكسورا ومنسيا.
من بين اهتمامات الفيلم اشتغالاته على جوانب من الشخصية الرئيسة وتبيان شغفها بسائر الفنون الايطالية وما تتضمنه من لوحات وتماثيل فهو خبرها وتخصص بصنوفها عن بعد، عبر ما توفر له من ادبيات ورسومات وصور ، ليصل الى نتييجة مفادها، إنه من الصعب على المثقف ان يكون موضوعيا في ما يطرحه من رؤى وافكار واحكام وهو في عزلة عن معايشة سائر الثقافات الانسانية .
يحتوي الفيلم على العديد من المناظر الآسرة والمواقف اللافتة خاصة لحظة اطلاع مترجمته على رسالة وصلته الى روسيا من صديقه الموسيقار المقيم في ايطاليا يعبر فيها عن شوقه وحنينه إلى الوطن.
ذاعت شهرة المخرج الروسي الراحل اندريه تاركوفسكي عقب تحقيقه لجملة من الافلام الراقية والمغايرة للسائد في وطنه الام روسيا والتي من اشهرها فيلم "المرآة" الذي شكل صدمة في حراك السينما العالمية وتلقفته اقلام النقاد على غرار افلامه الاولى ومنها "طفولة ايفان" انجزه العام 1962 وحصل عنه على جائزة لجنة تحكيم مهرجان البندقية السينمائي الدولي.
اثبت تاركوفسكي المولود العام 1934، في سائر اعماله السينمائية التي لم تتجاوز السبعة اعمال روائية طويلة، مهارة وفنية عالية المستوى وجرأة غير مسبوقة عن اعمال جيله من المخرجين في الحقبة السوفياتية، وهو الذي نال تعليمه السينمائي تحت رعاية المخرج المعروف ميخائيل روم في معهد موسكو للسينما الذي كان قد التحق به العام 1955، واظهر موهبة ناضجة في مشروع تخرجه، واستمر في البحث والتساؤل عن قضايا وهموم مغرقة بالفلسفة والوجودية والتيارات الفكرية السائدة بالعالم.
واظبت افلام تاركوفسكي على التقاط موضوعات مغايرة لما درج عليه زملاؤه في السينما السوفياتية، كما في ملحمته السينمائية الذائعة الصيت "آندريه رويلوف"، والذي يتناول مسيرة فنان لرسومات الايقونات الكنسية ومعايشته لمحيطه الاجتماعي والسياسي في حقبة زمنية غابرة من روسيا القيصرية، فيه وضع روبلوف بعمله هذا الكثير من خبرته وتصوراته الشخصية للاوضاع التي يعيشها المبدع ببلده والمليئة بالشاعرية والاشارات والايحاءات القوية، وفيها توظيف متين لمفردات اللغة السينمائية، وهو العمل الذي ظل مغيبا لفترة طويلة عن شاشات السينما العالمية لسنوات بحكم الرقابة والحذر اللذين استقبلاه في بلده الاتحاد السوفياتي السابق قبل ان ينجح بالانفلات من قيوده ويعرض بحماس شديد في اكثر من مناسبة سينمائية عالمية وباحتفاءات خاصة وكلها تحكي باعجاب ودهشة عن مثل هذه المشهدية السينمائية المكتنزة بالرؤى والافكار والتي فجر فيها صانعها الالوان في حلول درامية تجيء بآخر مشاهد العمل الذي صوره باللونين الاسود والابيض.
بعد نجاح تاركوفسكي المدوي في "اندريه روبلوف"، واصل جهوده الابداعية بأفلام لاحقة كانت تتفاوت بمعدل فيلم كل عامين وفي احيان كثيرة انتظر لخمسة اعوام ليتمكن من تحقيق عمله التالي، ولم تخل قائمة افلام تاركوفسكي سواء تلك التي حققها داخل موطنه روسيا او خارجه بالسويد، عبر آليات الانتاج المشترك مع فرنسا وايطاليا من لقياته الابداعية وتنويعاته المدروسة ما بين المنحى التجريبي والخيال العلمي.
ففي فيلمه "المرآة" الذي حققه العام 1974 يبدو مخرجه اسير افكاره الاولى التي تأسس عليها والتي تحوي على قدر اكبر من الاحاسيس والمشاعر الذاتية الخاصة والعميقة المضامين من الصعوبة بمكان على المشاهد العادي ان يتفاعل معها نظرا لأسلوبية صنعها والمختلفة مع سواها، ولكن هذا لا يعني بتاتا انها موجهة اساسا للنخبة، فالفيلم الذي يعد ثيمة ثابتة لأعماله اللاحقة مثل "سولاريس" 1979 والذي اعادت السينما الاميركية قبل عامين انتاجه بالعنوان ذاته واخرجه ستيفن سوديبرغ اعتبر كتحية خاصة للمخرج الراحل ولكن عجز الفيلم الاميركي عن بلوغ موهبة صاحبه الاصلي.
في فيلم "المرآة"، كما في سائر افلامه الاخرى ينهل تاركوفسكي من تفاصيل حياتية وشخصيات وازمنة وامكنة باشتغال كثيف على العناصر الدرامية والبصرية، ويلتقط ما هو مهمل في افلام الآخرين ويركز عليه ويتواصل معها بما يحيط بها هناك ثمة صمت ولحظات من الضجر والقتامة وتبدل العواطف وتحولات مصائر لشخوصها الاساسيين، فهو على سبيل المثال يتتبع سيرة بطله الاربعيني داخل عائلته ويستعيد معه سنواته السابقة في اكثر من مرحلة حياتية، متكئا على تفاصيل بسيطة من البيئة البعيدة عن مركز المدن الكبيرة، يغوص المخرج بأطرافها ومفسحا للكاميرا التجوال المريح في عالم الطبيعة الفسيح.
مع بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي لم يتحمل اندريه تاركوفسكي الضغوطات النفسية والعصبية والتدخلات التي احاطت بعمله الابداعي، ما جعله في النهاية يقرر الخروج من بلده روسيا والاتجاه الى اوروبا دون ان يعني ذلك انشقاقه كما فعل مواطنه اندريه كونشالونسكي، فقد ظل طوال اقامته بالسويد على تماس مع بلده الاصلي وتجاذب خاص، وفي مقر اقامته الجديد اسعفه القدر من تحقيق فيلمين من ابرز اعماله في مشواره السينمائي رغم حالة المرض العضال التي عانى منها في سنواته الاخيرة، فقد انطلق بفيلميه الأخيرين: "حنين" او (نوستالجيا) و"تضحية" على بث خلاصة رؤيته واسلوبيته المميزة بالتساؤل والبحث عن حقائق الحياة والموت والكون، والعديد من المفردات الفلسفية المغرقة في الوان من الفن والشعر والحيرة والقلق بعضها مستمد من ابعاد صوفية دينية، والآخر من تضاريس طبيعية، سهول وهضاب وجبال وغابات ومياه من حبات مطر متساقطة، ومشاهد بديعة التكوين مفعمة بالاسئلة عن تناقضات الحياة وماهية هذا الكون الفسيح.