عالمنا اليوم أضحى يموج بصراعات بعضها تتوزع مابين السياسي والاقتصادي وحتى الدموي ما ينذر بكارثة قد تؤدي الى هلاك هذا الكون الذي يأوينا ويطعمنا من خيراته المتعددة .
وفي اعتقادي ان هذه الصراعات في اغلبها يرجع الى غياب العدل ، لانه اذا ما ساد العدل مجتمعاتنا فان المحبة ستعم بقاع الدنيا ويتراجع التناحر ومن ثم التباغض ليحل محلهما التعاون والحب ، ويصبح الرخاء بديلا للعوز والضنك .
وللاهمية القصوى للعدل في بناء المجتمعات واستقرارها ونهضتها فقد أعلت الكتب السماوية من قيمة العدل واكدت على ضرورة التمسك بتلك القيمة ليكتمل ايمان الفرد ، كما اتفقت تلك الكتب على ان العدل احد صفات الخالق .
ويروى ان كونفوشيوس عاش في عصرٍ ساده الاستبداد والتمزق في الصين، وعُيِّن وزيرًا، وبدأ في تحقيق نجاح ساحق في دولته “لو”؛ فخشيت دولة “تشي” المجاورة والمنافسة من هذا النجاح؛ فأرسلت فرقة من الراقصات إلى حاكم “لو” فافتتن بهن وأهمل أمور رعيته، فخاب مسعى كونفوشيوس، واعتزل السياسة وبدأ التفكير في إصلاح هذه الأحوال .
وربما لهذا تميزت تعاليم كونفوشيوس بعدة أمور أبرزها: الحل يبدأ من إصلاح الفرد لا من السلطة، وينبغي أن يربى الفرد تربية أخلاقية تجعله قادرًا على فعل الفضائل وتبادلها مع الآخرين، فالأخلاق والفضائل هي الضمانة لثغرات القوانين، وينبغي أن يكون التعليم أمرًا عامًا وشائعًا لكل الناس، فكل الناس سواء وسواسية، وحين يحدث هذا ستنصلح أحوال الممالك بطبيعة الأحوال؛ لأن الشعب هو من سيفرز السلطة؛ بحيث يكون الحاكم متحليًا في نفسه بأسمى الأخلاق، وهو من سيستطيع تقويمها إن حادت عن الأخلاق ولم تعد تعمل في مصلحة الشعب، وحين تحدث عن السياسة كان أبرز ما في تعاليم كونفوشيوس إعطاء صلاحيات أوسع لمنصب الوزير، فكانت تعاليمه مجرد انعكاس لفساد واقعه.
وفي العام ٣٨٠ ق . م . كتب افلاطون “ الجمهورية “ الكتاب الاشهر عبر التاريخ الذي تناول على لسان سقراط قضايا تخص الدول والمجتمعات الشرقية والغربية منذ فجر التاريخ الانساني وحتى يومنا هذا .
ناقش افلاطون في كتابه فكرة العدالة وكيفية بناء دوله عادله وافراد ينحازون الى العدالة ، ووصل الى ان الحاكم الفيلسوف هو الاقدر على تدبير الامور في ظل ما يتمتع به من حكمه وحرص على مصلحة البلاد .
بينما توماس مور صاحب لفظ “يوتوبيا” تخيل أن العلاقة بين الحاكم والرعية هي علاقة الأب بأبنائه، وأن هذا الحاكم هو أفضل الناس وصاحب أخلاق تجعله لا ينحرف تحت ضغط أي إغراء، وهو لا يتميز عن باقي الرعية برداء أو تاج، وأن النزاعات تخفت تمامًا بين الناس فإن حدثت اجتمع لها ثلاثة قضاة؛ فابتكروا عقوبة مناسبة تكون غايتها الإصلاح لا الردع، ويكون توجه الناس في هذه الأرض نحو نشر الفضيلة.
وبعيدا عن الاحلام والافكار المتخيله فإن التاريخ ينبئنا عن فترات زمنية سادها العدل فاختفت الجرائم كافة وأمن الرعية والحكام وفي هذا يروى أن المرزبان (رسول كسرى) قدم الى المدينة يريد مقابلة الخليفه عمر بن الخطاب فأخذ يبحث عن قصره ، فلم يجد في المدينه قصرا فسأل أين عمر؟ فقيل له ، لعله ذاك النائم تحت الشجرة ، فذهب فإذا به عمر قد افترش الأرض والتحف السماء ، فوقف المرزبان مشدوها وقال مقولته المشهوره : ( حَكَمت . فعَدلت .فأمِنت . فنِمت . ياعمر ) .
ويذكر التاريخ ايضا نموذجا لحاكم نشر العدالة بين الرعية حتى انه لم يبقى جائع في عهده ولا عازب ولا مدين ولا مظلوم ، ونشر الحبوب على أسطح المنازل لتأكل الطير، فلما سئل في ذلك قال: حتى لا يقال ان الطيور قد جاعت في عهد عمر بن عبد العزيز. وعدالة علي وال بيت رسول الله ولم يكن هناك شخص أكثر تسامحا وعدلا من يسوع المسيح الذي لم يطمع في حكم بل طمع في تغير سلوك الإنسان عبر ترقية روحانياته.
التاريخ يؤكد من خلال وقائع حتى ولو كانت محدودة بان افكار الفلاسفة قابلة للتحقق اذا ما توفر حاكم يؤمن بقيم العدل وسعى جاهدا لاشاعة تلك القيمة بين الرعية .
المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتبه