باريس - حتى نهاية شهر مارس القادم، يحتضن رواق “تادوس روباك” بضاحية بانتان الباريسية معرضا فنيا بعنوان “التقليلي الضخم” يحتفي فيه ببعض رموز الحركة التقليلية الأميركية، التي ازدهرت في الستينات، منبثقة من المدرسة التجريدية، وإن تميزت عنها بقلة العناصر والألوان.
التقليلية أو الفن التقليلي حركة فنية معاصرة ظهرت إبان ستينات القرن الماضي في الولايات المتحدة، كرد فعل على التعبيرية التجريدية، وتصدٍّ للبوب آرت. فقد اتسمت براديكاليتها الشكلية، ونبذها الأنماط التقليدية في تمثل الرسم والنحت، وميلها إلى استعمال المواد الصناعية وإنتاج أعمال متسلسلة، متمثلة ما أسماه أحد أعضاء حركة باوهاوس الألمانية لودفيغ ميس فان دير روهه “الأقل هو الأكثر”، أي تقليص المواد المستعملة إلى حدودها الدنيا.
ومن أعلام هذه الحركة النحاتون روبرت موريس، وكارل أندر، ودونالد جود، والرسامون فرانك ستيلاّ، وصول لوويت، ورتشارد سيرّا، والموسيقيون لامونت يونغ، وتيري ريلي، وفيليب غلاس، وستيف ريتش.
كل هؤلاء يلتقون في التعرية الشكلية والاختزال والحياد. فأما الرسامون فقد كانوا يرغبون في تقليص كل أثر للصبغة التصويرية، أو تدخل يد الفنان، ومن ثَمّ كانت الأعمال الفنية التقليلية مؤلفة في الغالب من لونين أو ثلاثة ألوان، ومن أشكال أساسية كالدوائر والمربعات والخطوط المستقيمة.. فالأولوية عندهم للبساطة، فلا وجود لأي تمثل ذاتي وراء التقليلية، بل إنها تتجرد من كل رمزية، ولا تسعى للعب على الأشكال والألوان، بل تتجنب الانفعال والعواطف، سلبا وإيجابا، ما يجعلها فنا خاليا من المشاعر.
وأما النحاتون فكانوا يستعملون بنى بسيطة، مصنوعة من مواد عادية (نحاس، فولاذ، صفيح..) غالبا ما تترك كما هي، وأشكال مبسطة للغاية، كترصيف بالمربعات المعدنية لكارل أندر، وأوراق معدنية ضخمة مطوية أو ملفوفة لرتشارد سيرّا، وتكرار أشكال وأحجام متماثلة لدونالد جود، وقطع وبرية مشروطة أو محرّفة بفعل الثقل لروبرت موريس، وتوليفات خطية من أنابيب النيون البيضاء أو الملونة لدان فلافين، وعوارض مجوّفة ذات مقاطع مسبوكة وأشكال مقوسة لألبرت هيرش.
والحركة تستمد تسميتها من مقولة للفيلسوف الإنكليزي رتشارد وولهايم، كان أدلى بها عام 1965 لمجلة الفنون بمناسبة معرض بـ”غرين غاليري” بنيويورك، ولكن المقاربة الفنية تستمد جذورها من فنانين كبيرين هما البولندي كازيمير ماليفيتش (1879-1935) وأد راينهارت (1913-1967).
المعرض يشير إلى العلاقة الملتبسة التي تقيمها منحوتات التقليلية الأميركية مع مفهوم النصب والتمثال، وبصورة أوسع مع مبادئ النحت الكلاسيكي
فأما الأول، فكان من كبار ممثلي التسلطية، وهي حركة ظهرت في روسيا عام 1915 ودعت إلى فن صاف وتجريدي، وأكد أن الرسم ينبغي أن يتحرر من كل التصورات الرمزية أو التصويرية ليصبح غير ذاتي، فأنجز عمله الشهير مربع أسود في خلفية بيضاء، وألغى بذلك الإرث التصويري القديم الموروث عن النهضة، معلنا موته.
وأما الثاني، فقد أنجز في الستينات، أي حتى وفاته، سلسلة لوحات وحيدة اللون، تحتفي بالفراغ والعدم، وهو ما دأبت عليه الحركة التي غايتها إعادة تحديد مفهوم الفن، التشكيلي بوجه خاص، بالنزوع إلى تجريدية هندسية، كما فعل فرانك ستيلا، حين عمد إلى خلق لوحات/ أشياء ذات أشكال لا تتعدى الهياكل الأصلية، مع خطوط مستقيمة، متحدة المركز منتظمة أو متناسقة، لا يرجع الفضل فيها للفنان، بل للفرشاة التي يستعملها.
ويرفض أد راينهارت التأويل في الفن، ويحرص على عدم تشخيص العمل الفني قائلا “لوحتي لا يوجد فيها سوى ما يمكن أن يُرى”، فما اختيار الأحجام الهندسية البسيطة إذن إلاّ لكونها خالية من الزخرف، فالألوان والمواد تسمح بإنتاج أعمال خالية من أي محمل شعوري، ما يجعل العمل الفني، لوحة أو منحوتة، لا يمثل سوى نفسه، فهو تقليلي لأنه يكتفي بما هو جوهري.
ويحتوي المعرض الذي يقام حاليا برواق “تادوس روباك” بضاحية بانتان الباريسية على أعمال لأهم رموز الفن التقليلي الأميركي، ويهدف إلى إظهار الأبعاد الجمالية في هذه الثورة الفنية، مع التأكيد على تأثير الأوروبيين في هذه الحركة التي غالبا ما تقدم على كونها أميركية خالصة.
وعنوانه “التقليلي الضخم” يشير إلى العلاقة الملتبسة التي تقيمها منحوتات التقليلية الأميركية مع مفهوم النصب والتمثال، وبصورة أوسع مع مبادئ النحت الكلاسيكي.
فالمنحوتة “نصب لأجل ف. تاتلين” التي أنجزها دان فلافين عام 1967، تمثل نقطة انطلاق للمسار الكرونولوجي والمفهومي للمعرض، وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك الجذور الأوروبية لهذه الحركة، بل إننا نجد صدى ذلك التأثير في بعض أعمال كارل أندر، مثل “وريد النحاس الأزرق” التي استوحاها من “عمود” النحات الروماني كنسطنطين برانكوزي (1876-1957)، وكذلك في بعض لوحات روبير مانغولد التي تجد مرجعيتها في إبداعات الهولندي بييت موندريان (1872-1944).
وبما أن المعرض ركز على الضخامة وكبر الأحجام، فقد كان من الطبيعي ألاّ يحتضنه سوى فضاء واسع كرواق “تادوس روباك” الباريسي الذي هو في الأصل مصنع قديم يرجع عهده إلى القرن التاسع عشر، وتبلغ مساحته ألفي متر مربع.
وقد عرضت الأعمال المشاركة، وعددها 21، بكيفية استراتيجية تدفع معنى الضخامة إلى أقصاه، وكأن مفوض المعرض جيم جاكوبس يرد على الرهان الذي كان اقترحه كيناستون ماكشاين قبل نصف قرن.