ترك كارافاجيو أثرا كبيرا على فنّ الباروك بأسلوبه الخاصّ والمبتكر الذي يتميّز بالإضاءة والحركة والدراما والتوتّر والفخامة.
كان الفنّانون قبل كارافاجيو يرسمون مناظر دينية مثالية، وذلك بإضافة هالات إلى الأشخاص أو ملائكة تطير في الهواء وتفاصيل من عوالم أخرى.
أما كارافاجيو فقد أصرّ على أن يتعامل مع القصص الدينية بشكل مختلف وذلك بتركيزه على الواقع والجسد والانفعال.
في هذه اللوحة، يصوّر الرسّام قصّة دينية وردت في الكتب القديمة عن قدّيس يُدعى سول كان مشهورا باضطهاده للمسيحيين. وسول هذا هو الذي سيتحوّل في ما بعد إلى بولس الرسول أحد كتبة الإنجيل.
تذكر القصّة أن سول كان فرّيسا وكان يعيش في مدينة القدس بعد صلب المسيح. وقد أقسم على أن يبيد جميع المسيحيين الجدد. ثم جاءته أوامر من كبار الكهنة بالذهاب إلى دمشق والتعامل بشدّة مع أتباع المسيح فيها.
لكن مفاجأة حدثت له في الطريق بالقرب من دمشق، إذ فوجئ – بحسب القصّة - بضوء قويّ يأتي من السماء ويُسقطه عن ظهر حصانه. ثم سمع صوت المسيح يقول له: لماذا تضطهدني؟!" وأثناء تخبّطه، اكتشف سول انه لم يعد يرى. ثم جاءه الصوت مرّة ثانية يقول له: الآن انهض واذهب إلى دمشق وسأخبرك ما الذي ستفعله هناك".
وكارافاجيو يرسم لحظة السقوط تلك من على ظهر الحصان والفوضى التي رافقت ذلك. والرسّام يختار لهذه الدراما خلفية مظلمة لكي يركّز اهتمام الناظر على تلك اللحظات المثيرة التي مرّ بها سول المتمدّد على الأرض في ذهول وصدمة. ويُفترَض انه رأى المسيح في تلك اللحظة التي أعماه فيها النور القادم من السماء.
والضوء يضرب الحصان ويسقط على سول المتمدّد على الأرض والرافع يديه والمغمض عينيه بينما سيفه وخوذته ملقيان على الأرض.
ووسط هذه المعمعة هناك أقدام كثيرة. الخادم المرتبك والذي لا يظهر منه سوى رأسه وقدماه يحاول الإمساك برسن الحصان لمنعه من دوس سول.
الحصان يحتلّ معظم مساحة اللوحة، وهو يثير إحساسا بالتوتّر يعمّقه رفعه لأحد حافريه في الهواء كما لو انه يريد تحاشي أن يخطو فوق صاحبه. ونظرات الحصان تبدو متعاطفة، بينما نصفه في الظلمة ونصفه الآخر في الضوء. والرمزية هنا واضحة، وفيها إيحاء برحلة سول من الظلام إلى النور أو من الكفر إلى الإيمان.
بحسب القصّة، فإن هذه الحادثة كانت إيذانا بالتحوّل الروحيّ الذي سيطرأ على سول فيتحوّل بعد قليل من كونه مضطهِدا للمسيحيين إلى قدّيس يحمل اسم بولس الرسول. ووضع سول المثير للشفقة يوحي بأن ما نراه هو ولادة روحية جديدة.
وعلى الرغم من أن هذه الصورة لا تشبه أيّ صورة أخرى، إلا أنها برأي الكثيرين اقلّ لوحات كارافاجيو حيوية ودراماتيكية.
تقول القصّة أن سول بقي أعمى ثلاثة أيّام امتنع خلالها من تناول أيّ طعام أو شراب. وعندما وصل إلى دمشق، كان المسيح قد ظهر لرجل صالح فيها يُدعى انايناس وأمره بأن يقابل سول. ورغم انه كان خائفا من الأخير بسبب سمعته السيّئة كقاتل بلا رحمة للمسيحيين، إلا انه قابله في النهاية. وأثناء اللقاء استردّ سول بصره ثم تحوّل إلى بولس الذي تذكر الأدبيات المسيحية أنه أسهم إسهاما كبيرا في نشر المسيحية.
استخدم كارافاجيو في اللوحة تقنية الكياروسكورو، أي توظيف الضوء والظلّ، لتركيز الأنظار على مناطق معيّنة في الصورة. وهذا الأسلوب أصبح علامة مميّزة له ومصدر إلهام لأجيال عديدة من الرسّامين الذين أتوا بعده.
المعروف أن هذه القصّة استهوت العديد من الفنّانين الذين صوّروها، ومن أهمّهم لوكا جوردانو و غويدو ريني و آدم الزهايمر وغيرهم.
بسبب رحلة بولس تلك، أصبحت عبارة "تحوّل في الطريق إلى دمشق" شائعة في اللغة. وتُستخدم عادة لتعكس تغيّرا كبيرا أو أساسيّا ومفاجئا في حياة شخص ما بسبب لحظة واحدة. وأحيانا تُستخدم العبارة لتعني النقطة التي يحدث فيها تغيير دراماتيكيّ ودائم في أفكار ومعتقدات شخص ما بسبب تدخّل إعجازيّ وخارق للعادة.
لوحات كارافاجيو الدينية اعتُبرت دائما أفضل ما في روما من فنّ. كان أسلوبه يروق للكنيسة والكهنة. ولسوء الحظ أدّى مزاجه العنيف لأن يفرض على نفسه المنفى في السنوات الأخيرة من حياته. ورغم موته في سنّ الثامنة والثلاثين، إلا أن الكارافاجيوية عاشت طويلا بعده وتأثّر بها معظم رسّامي عصر الباروك.
هذه اللوحة هي إحدى لوحتين أمر برسمهما المونسنيور الايطاليّ سيراسي، وزير خزانة البابا كليمنت الثامن، كي تزيّنا كنيسة ماريّا ديل بوبولو في روما.
وكلا اللوحتين ما تزالان في مكانهما إلى اليوم مع لوحات أخرى لرافائيل وكاراتشي وبيرنيني. لكن مقارنةً بلوحات هؤلاء الثلاثة، تبدو لوحة كارافاجيو حديثة جدّا من حيث الشكل والمضمون