ذات مرّة، وصف الشاعر والناقد شارل بودلير الرسّام اوجين ديلاكروا بأنه آخر الرومانتيكيين وأوّل الحداثيين.
وربّما كان ديلاكروا آخر الرسّامين العظماء الذين اقترب فنّهم من مفهوم الحداثة. لكن لم يكن له سخرية مانيه ولا شكوك سيزان. ويبدو كما لو انه كان قانعا بالمتعة التي كان يرسم بها وبفكرة الفنّ من اجل الفنّ.
ومع ذلك كان ديلاكروا فنّانا استثنائيا في زمانه. وقد استطاع أن يرسم لوحات دينية مثيرة للمشاعر على الرغم من انه هو نفسه لم يكن متديّنا.
لوحاته مزيج من العنف والعاطفة والإغراء: حريم، انتحارات جماعية، معارك، مذابح، وملائكة وغير ذلك. كان يرسم كلّ شيء بحساسية فائقة وبفهم غير عاديّ لوظيفة الألوان.
ويقال أحيانا انه ما من رسّام آخر تمتّع بنفس تأثير ديلاكروا ونفوذه الدائم والمستمرّ. كان رسّاما منضبطا وثائرا. ولوحاته الأدبيّة، أي تلك التي استوحاها من روايات، فيها تطرّف وعاطفة واضطراب، وبعضها يثير الخوف، لكنّها مع ذلك جميلة ومعبّرة على الدوام.
وكان هناك من الرسّامين من ينظرون له نظرة إجلال وتقديس مثل غوستاف مورو وغوغان واديلون ريدون الذي التقاه مرّة في حفل وفُتن بملامحه الجميلة وبتحفظّه وانعزاليّته.
رينوار أيضا أحبّ ألوان ديلاكروا ورسم نسخا من لوحاته الجزائرية. ومانيه وفان غوخ كانا أيضا معجبَين بسطوع ألوانه وأناقتها الواضحة. وقد استلهم الانطباعيّون ومن أتوا بعدهم طريقته المتفرّدة في توظيف واستخدام الألوان.
ومصادر إلهام ديلاكروا تأتي في الأساس من الأحداث التاريخية أو المعاصرة ومن أعمال الأدب. روايات السير والتر سكوت مثلاً، بأفكارها الغرائبية والعنيفة، كانت ذات شعبية كبيرة عند الرسّامين الأوربّيين الرومانتيكيين. ورغم تحفّظ ديلاكروا على قيمتها الأدبية، إلا انه وفي مناسبات عديدة وجد في بعض تلك الكتابات شيئا من الإلهام.
في هذه اللوحة، يرسم ديلاكروا منظرا من رواية ايفانهو لسكوت والمنشورة عام 1819م. كان ايفانهو نبيلا انجليزيا وفارسا مخلصا للملك ريتشارد الأوّل الملقّب بقلب الأسد.
وقد عاد ايفانهو بصحبة الملك سرّا إلى انجلترا بعد انتهاء الحروب الصليبية وبعد سجن ريتشارد في النمسا، لأنه وأثناء غياب الملك قام أخوه جون، وبمساعدة من نبلاء النورمان، بالاستيلاء على عرش انجلترا.
وقد قام ايفانهو بدور مشهود في إلحاق الهزيمة بفرسان الأمير جون وعلى رأسهم كلّ من برايان دو غيلبيرت وريجينالد دو بوف.
لكن بطريقة ما، تمكّن هذان الأخيران من اعتقال ايفانهو الجريح ووالده وسجنوهما في إحدى القلاع. وكان مسجونا في تلك القلعة أيضا تاجر يهوديّ مع ابنته الجميلة التي تُدعى ريبيكا.
كان دو بوف قد وقع في حبّ المرأة ثم اختطفها وحبسها في القلعة على أمل أن يتّخذها خليلة. لكن أثناء حرق ونهب القلعة، التي تبدو في خلفية اللوحة، حُملت ريبيكا بعيدا على يد عبدين وبناءً على أوامر من دو غيلبيرت الذي كان واقعا في هواها هو الآخر.
وهذا هو الجزء الذي رسمه ديلاكروا من الرواية، حيث صوّر الدراما المكثّفة من خلال الخطوط والألوان الساطعة. واللوحة تُظهر الرسّام وهو في أوج إبداعه وتألّقه، كما يمكن اعتبارها امتدادا لإبداعه الذي بدأه في لوحته "نساء الجزائر". لكنّ الألوان هنا اخفّ وأكثر تعبيريةً. وضربات الفرشاة تبدو عصبية، لدرجة أنها تشعل السطح بأكمله. المشهد أيضا يذكّر ببعض لوحات روبنز وبمناظر الحرب التي استوحى منها الشاعر الانجليزيّ اللورد بايرون قصائده.
وربّما يكون ديلاكروا قد أحبّ في رواية ايفانهو فكرة العنف التي كانت تروق للرومانتيكيين عادة. ومن الواضح أن ما كان يهمّه في المقام الأوّل هو النوعية الغرائبية للقصّة.
العديد من النقّاد المعاصرين للرسّام امتدحوا تلقائية اللوحة وقوّتها الكامنة وتناغم ألوانها. وهناك أيضا تفاصيل أخرى تلفت الانتباه، كالنار المنطلقة من عقالها والجواد الأشهب الجميل وتفاصيل الملابس.
غير أن النقّاد المحافظين آنذاك هاجموا اللوحة لنقص الرسم فيها والفراغات غير المتناسقة ولانتهاك الرسّام للقواعد الكلاسيكية. ديلاكروا نفسه كان يدرك عيوب هذه اللوحة جيّدا، لكنه رغب في التضحية بكلّ شيء من اجل أن يخلق تأثيرا دراميّا. لكن ممّا لا شكّ فيه أن اللوحة لا تفتقر للفخامة والجمال.
اللون نفسه يبدو مندمجا في نسيج اللوحة لدرجة انه يتحوّل إلى روح. وأنت تنظر إلى الألوان، قد تلاحظ أنها تتحوّل وتتدرّج من الخفيف إلى القاتم وبالعكس وكأنّها تتنفّس في داخل المشهد.
كان ديلاكروا يقول إن القيمة الأولى للوحة هي أن تكون مبهجة للعين. وكان ينظر إلى قلب الإنسان كمنطقة قاسية ومضطربة. والبشر والحيوانات التي كان يرسمها تبدو وكأنها تتبادل الأدوار في ما بينها. وهذا التعقيد والمزج بين التطرّف والمحافظة كان سمة للرسّامين الفرنسيين الكبار من القرن التاسع عشر.
كان ديلاكروا أوّل رسّام فرنسيّ مهمّ لا يزور ايطاليا، وبدلا من ذلك ذهب إلى المغرب. وباختياره ذاك أحدثَ تطوّرا في الرسم الفرنسيّ، إذ ابتعد عن الكلاسيكية وفضّل أن يهتمّ أكثر باللون والحركة.
وعندما وصل إلى المغرب كتب يقول: الإغريق والرومان وجدتهم عند عتبة بابي. إنهم العرب الذين يلفّون أنفسهم بالعباءات البيضاء ويبدون بملامح كاتو وبروتوس". رحلته إلى شمال أفريقيا بدأت عام 1832، وقد وجد هناك سماوات مفتوحة وعواطف متوقّدة وحياة ذات نمط قديم، وغيّر ذلك حياته كلّها جذريّا.
قضى ديلاكروا بقيّة حياته محاولا استيعاب تجربته المشرقية. وعندما عاد إلى فرنسا، عكف على رسم الموتيفات الشرقية التي رآها في رحلته وأذهلت مجتمع باريس.
بعض أهم أعمال الفنّان كُلّف برسمها كي تزيّن جدران وأسقف بعض مباني باريس العامّة. وأشهر لوحاته مثل "الحرّية تقود الشعب" و"موت ساردانابالوس" و"نساء الجزائر" تُعتبر اليوم من ايقونات الرسم الفرنسيّ ونادرا ما تغادر أراضي فرنسا لتُعرض خارجها.
كان ديلاكروا عاشقا للأدب والفنّ. والكثير من أعماله مستوحى من أعمال أدباء مثل شكسبير وغوته وغيرهما. كما رسم عددا من البورتريهات لشخصيّات معروفة مثل الموسيقيّ الايطاليّ نيكولا باغانيني والموسيقيّ البولنديّ فريدريك شوبان والأديبة الفرنسية جورج صاند التي بقيت في محترفه حتى وفاته عام 1863.
كان ديلاكروا يرى أن الأشياء إن لم تكشف عن معناها على الفور فليست لها قيمة". ومع ذلك، فإن هذا الوصف لا ينطبق على مناظر الدراما الإنسانية التي كان يرسمها، إذ يلزمك أحيانا نظر طويل حتى تكتشفها وتلمّ بتفاصيلها.
شطآن البحار التي كان يصوّرها تبدو تدريجيّا منذرة بالخطر كما لو أنها هاوية العالم. وميدان المعركة يصبح محيطا اخضر. ويقال أن أحدا لم يرسم غموض البحر وروعته بمثل ما فعل ديلاكروا. بحره يمكن أن يكون رمزا لفنّه: جامح، قويّ وعنيف، لكن مسيطَر عليه بطريقة غامضة.