لندن - يعتقد معظم الرؤساء التنفيذيين وأصحاب الشركات الناشئة أن الكفاءة الإنتاجية للموظف مرهونة بحماسه للعمل وتركيزه وطموحه وإخلاصه. فإذا كنا نتحلى بهذه السمات الأربعة، سنتمكن دائما من تحفيز أنفسنا لإنجاز المزيد من المهام، أو هكذا نعتقد.
لكن أبحاثا عن ساعات العمل أثبتت أن الإفراط في العمل يؤدي إلى تدني إنتاجية الموظف وليس رفعها. وربطت أبحاث بين طول ساعات العمل وبين زيادة معدلات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية ومرض السكري وغيره من الأثار السلبية على الصحة، وكل ذلك يؤثر على حجم الإنتاج.
وتوصل تحليل أجري في عام 2015 لبيانات العمال في المصانع في الظروف الاستثنائية إبان الحرب العالمية الأولى إلى بعض الأدلة التي قد تساعدنا في تحديد الحد الأقصى لساعات العمل الذي إذا تجاوزه الموظف تنخفض إنتاجيته.
العدد المثالي لساعات العمل
كانت بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى تحتاج لتصنيع العتاد الحربي على وجه السرعة، ولأن الكثير من الرجال كانوا يحاربون على الجبهة، استدعى الجيش النساء للخدمة في مصانع الذخيرة. وكانت مهام النساء في المصنع شاقة وخطيرة، من بينها عمل ثقوب في قطع السلاح قبل تجميعها ولف القطع المعدنية أثناء قطعها بالآلات.
وفي عام 1915، تشكلت اللجنة المعنية بصحة العاملين بمصانع الذخيرة لمراقبة أوضاع العمل وتقديم توصيات بشأن ساعات العمل. وجمعت اللجنة مجموعة ضخمة من المعلومات قد نستدل منها على آثار العمل لساعات طويلة على الصحة.
وبتحليل البيانات، استطاع الباحثون احتساب ساعات العمل والإنتاجية بسهولة، لأن العاملات كن يعملن ساعات ثابتة ويؤدين نفس المهام.
واكتشف الباحثون أن الإنتاج كان يزيد كلما زادت ساعات العمل، لكن إلى حد معين. إذ بلغت معدلات الإنتاج ذروتها عند نحو 40 ساعة أسبوعيا، وبعدها أخذت في الانخفاض.
ويقول جون بينكافيل، أستاذ الاقتصاد بجامعة ستانفورد ومعد الدراسة: "إذا عمل الموظف 30 ساعة في الأسبوع بالفعل، تكون كل ساعة عمل إضافية مثمرة، إذ يكون الموظف أكثر قدرة على الإنتاج أو أفضل أداءً مقارنة بالعمل بعد 40 ساعة أسبوعيا".
وذكر بينكافيل في كتابه "المردود المتناقص للعمل: تبعات ساعات العمل الطويلة"، أن العاملات في مصانع الذخيرة كن يعملن أكثر من 50 ساعة أسبوعيا وأحيانا يصل الأمر إلى 72 ساعة. لكنهن حققن أعلى معدلات إنتاج في الأسابيع التي لم يعملن فيها لساعات طويلة.
وهذا يدل على أن قضاء وقت أطول من اللازم على مشكلة ما لن يسهم في حلها، بل قد يهدر نفقات التشغيل.
الحصول على إجازة
وتقوم الإجازات بدور كبير أيضا في تحسين الإنتاجية، إذ جمعت اللجنة المعنية بصحة العاملين في مصانع الذخيرة بيانات عن أوضاع العاملين الذين منعتهم ظروف الحرب من الحصول على عطلة نهاية الأسبوع. وذكرت اللجنة أن عدم الحصول على يوم راحة من العمل في الأسبوع يضر العاملين وأصحاب العمل على السواء. إذ لم يرتفع الإنتاج ولم يشعر العاملون بالرضا.
ولاحظ بينكافيل أن إنتاجية العاملين في مصانع الذخيرة انخفضت بنسبة تتراوح بين 13.5 و17 في المئة عندما عملوا أياما متواصلة دون الحصول على عطلة نهاية الأسبوع.
وكانت العاملات في المصنع يؤدين أعمالا يدوية ومتكررة، وكان عددهن يفوق عدد الرجال والشباب بأربعة أضعاف. وكن يتقاضين أجورهن بحسب المهمة وليس بالساعة.
وقد تنطبق هذه النتائج أيضا على الوظائف التي تتطلب جهدا فكريا، إذ أثبت الباحثون أن العمل لساعات طويلة ينعكس سلبا على أصحاب العمل والموظفين، ويؤدي إلى تراجع الإنتاج وفقدان القدرة على الابتكار والإبداع وتدني الجودة وضعف المهارات الاجتماعية.
لكن هذا لا يعني أن العمل لساعات طويلة لفترة مؤقتة للالتزام بموعد تسليم مشروع ما على سبيل المثال، لا طائل منه. فهناك مديرون تنفيذيون ورؤساء مخلصون يؤدون مهام مناصبهم بكفاءة رغم أنهم يعملون لساعات طويلة بانتظام. غير أن الكثير من الأبحاث تؤيد مزايا أسابيع العمل القصيرة لجميع العاملين.
وأثبتت دراسة نشرتها جمعية علم النفس الأمريكية أن عطلات نهاية الأسبوع وغيرها من الإجازات تساعد في التعافي من الضغوط النفسية الناتجة عن بيئة العمل، بحيث يعود الموظفون إلى العمل بذهن صاف.
وخلصت دراسة أجريت على موظفين إسرائيليين حصلوا على إجازة أسبوعين من العمل، إلى أن الإجازة أسهمت في تحسين الحالة المزاجية والنفسية لجميع الموظفين، حتى من كانوا يعانون من ضغوط نفسية شديدة قبل الإجازة. وذكر معد الدراسة أن: "الضغوط النفسية المزمنة التي يشعر المرء بأنه لا مفر منها تسبب الاحتراق النفسي".
وذلك لأن الذهاب للعمل ومزاولة المهام الوظيفية ينهك الموظفين، وتساعدهم أوقات الراحة في استعادة نشاطهم.
وتختلف المخاطر الصحية المهنية باختلاف طبيعة الوظيفة، فقد تجبر طبيعة العمل بعض الموظفين على العمل لساعات طويلة، كما هو حال العاملين في مجال الطوارئ أو البحارة أو عمال المناجم وسائقي الشاحنات والجراحين وأفراد أطقم الطائرات. وتركز الدراسات التي تجرى على العاملين في هذه المجالات على آثار الحرمان من النوم.
وضع حدود للعمل
وخلافا للعمال اليدويين، فإن الموظفين الذين يؤدون أعمالا تعتمد على التفكير والإبداع ورأس المال المعرفي، يجدون صعوبة في احتساب ساعات العمل وعدد المهام التي ينجزونها. فمن الصعب مثلا قياس إنتاجية الموظف إذا كانت مهام وظيفته تتضمن تنمية علاقات طويلة الأمد مع الشركات الأخرى.
وأشارت دراسات إلى أن العمال في القرن العشرين والحادي والعشرين يعمدون إلى المبالغة في تقدير ساعات العمل ويبخسون تقدير أوقات الراحة. وفي ظل تغير طبيعة العمل، أصبح من الصعب تعريف الأنشطة التي تدخل في إطار مهام الوظيفة.
وتقول إيرين ريد، الأستاذة المساعدة للموارد البشرية والإدارة بجامعة ماك ماستر في كندا: "إن الكثير من الموظفين تتطلب طبيعة أعمالهم الرد على رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية ذات الصلة بالعمل في أي وقت على مدار اليوم أو في عطلة نهاية الأسبوع أو حتى في الإجازات. وهذا يعني أن الموظف يفكر في العمل ويزاول مهام وظيفته، حتى لو كان نظريا في إجازة من العمل، وهذا ينهك الموظف نفسيا وبدنيا".
وتضيف أن هذا النمط من العمل المتواصل لا يؤثر على إنتاجية الموظف فحسب، بل يفقد الموظف أيضا متعة العمل والشعور بالإنجاز.
أما عن الحل لمنع تجاوز الحد الأدنى لساعات العمل، فتقول ريد، إن الإدارة هي التي تفرض على الموظف متطلبات العمل خارج ساعات العمل الرسمية وساعات العمل الطويلة، وتكون عادة جزءا من بيئة العمل أو طبيعة المهنة، ولهذا فإن محاولات الموظفين التحكم في حجم العمل ووضع حدود لساعات العمل ما هي إلا حلول مؤقتة أو غير مكتملة.
وبعبارة أخرى، فإن المديرين وأصحاب العمل هم وحدهم من يمكنهم وضع سياسات لمنع الموظفين من العمل لساعات طويلة.
ويقول بينكافيل إن بعض أصحاب الشركات يدركون تبعات العمل الإضافي على موظفيهم، لكنهم لا يرون ضرورة لتغيير الأساليب التي تدار بها شركاتهم، ما دامت ناجحة وتحقق أرباحا.
وعلى النقيض طبق بعض أصحاب الشركات أنظمة عمل مختلفة وغيروا الممارسات ذات الصلة بساعات الدوام بعد مراجعة النتائج السنوية.
ويتساءل بينكافيل لماذا لا يجرب أرباب العمل أنظمة عمل مختلفة لتغيير ساعات الدوام، إذا كانت الأنظمة التقليدية غير مجدية؟
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Worklife