موسكو- ذهبت إلى المستشفى وفي ذهني عبارة منسوبة إلى الأديب الروسيّ انطون تشيكوف، الذي كان طبيبا أيضا، يقول فيها: لا فرق كبيرا بين الأطبّاء والمحامين. الفارق الوحيد هو أن المحامين يسرقونك، بينما الأطبّاء يسرقونك ويقتلونك"!
وعندما دخلت على الطبيب، تمعّن قليلا في نتائج الفحوصات والتحاليل التي أمامه ثم قال: لقد تأخّرت كثيرا. هذا النزيف يثير الانزعاج فعلا. وأقدّر انك بحاجة إلى عمليّتين: الأولى لا بدّ من إجرائها دون إبطاء. ثمّ بعد شهرين على الأقلّ سنشرع في التفكير في الجراحة الثانية".
خلال السنوات العشر الأخيرة، وباستثناء مراجعتي المنتظمة لطبيب الأسنان، لا أتذكّر أنني زرت مستشفى أو رأيت طبيبا. ولطالما آمنت بأن الأطبّاء، أو معظمهم على الأصح، لا يحلّون مشاكل المرضى، وإنّما يضيفون إليها مشاكل جديدة.
كما أنني ممّن يؤمنون بأن الزمن أفضل معالج، وبأن كلّ إنسان هو، بمعنى ما، طبيب نفسه، وأنك كلما فكّرت اقلّ بصحّتك كلّما كان ذلك أفضل، لأن الانشغال أكثر مما ينبغي بأمور الصحّة والمرض قد يتطوّر إلى نوع من الهاجس أو الوسواس الذي يحرم الإنسان من الاستمتاع بمباهج الحياة.
قلت للطبيب: إذن أنت تقترح إجراء العملية الأولى الآن. وأنا موافق. لكن عليّ قبل ذلك أن انهي بعض الالتزامات على أن أعود إليك بعد أسبوع من اليوم. فقال مقاطعا: لا، الأمر لا يحتمل المزيد من التأخير. ولو كان الأمر بيدي لأمرت بتنويمك من هذه الساعة على أن اجري لك العملية غدا صباحا. والقرار في النهاية متروك لك. قلت: سآتيك بعد غد، أي بعد أن ابلغ عملي وأهيّئ نفسي للأمر. قال وهو يبتسم في محاولة لطمأنتي: لا تقلق، بعد الجراحة سيكون كلّ شيء على ما يرام، فاعقلها وتوكّل".
خرجت من العيادة وأنا اشعر بالارتياح، وبشيء من الخجل مبعثه أن انطباعاتي السابقة عن الأطبّاء لم تكن في محلّها بعد ما لمسته من إنسانية هذا الطبيب ولطفه. والحقيقة أنني لم اذهب إليه هو بالذات إلا بعد أن سمعت الكثيرين يثنون عليه ويمتدحون كفاءته.
عدت إلى المستشفى في الموعد المتّفق عليه. وأدخلت فجراً غرفة بسرير مفرد، وجاءت الممرّضة ومساعد الطبيب ومسئول التغذية لمعاينتي والسؤال عن بعض الأمور. وقيل لي: قرّر الدكتور أن تكون الأوّل في قائمة من سيجري لهم عمليات هذا اليوم. وموعد العملية سيكون الساعة التاسعة هذا الصباح.
بعد التاسعة بدقائق جاء ممرّض وممرّضة ليعلماني أنهما سيأخذاني إلى غرفة العمليات. وتذكّرت أن هذه هي أوّل مرّة اجري فيها عملية في حياتي تحت التخدير الكلّي. ولم أكن اشعر بأيّ انزعاج أو توتّر. كنت مرتاحا وهادئا ومستعدّا لخوض هذه التجربة الجديدة بالنسبة إليّ.
نزلنا إلى الدور السفلي وانتقلنا من ممرّ لآخر، وتخلّل ذلك بضع دقائق من الانتظار. وعندما وصلت إلى غرفة العمليات سمعت أصوات أشخاص يمازحون بعضهم ويضحكون وقرقعة أجهزة وآلات تُطوى ثم تُفتح. وبدّد هذا الجوّ ما كان علق بذهني من قبل من أن غرف العمليات تشبه في صمتها وبرودتها أجواء المقابر. ووسط ذلك الضجيج لمحت شخصا ضئيلا يضع على وجهه قناعا اخضر ويجلس في طرف الغرفة البعيد. وعندما مررت بالقرب منه قال لي بصوت خفيض: أهلا يا "..."، صباح الخير، أنا الدكتور "..."، هل أنت جاهز للعملية"؟ لوّحت بيدي ناحيته وقلت: صباح الخير يا دكتور، نعم أنا جاهز".
ولا أتذكّر شيئا ممّا حصل بعد ذلك. ولم أفق إلا على صوت الممرّض وهو يقول: انتهت العملية، ستعود الآن إلى غرفتك". في الغرفة كان هناك بعض الأشخاص الذين يروحون ويجيئون كالظلال. ونظرت إلى التلفزيون فبدت لي الصورة مشوّشة وغائمة من تأثير البنج. ونمت ساعتين تقريبا، وعندما صحوت كان كلّ شيء على ما يرام باستثناء بعض الألم الناتج عن جرح العملية.
بعد هذه التجربة لم تتغيّر الكثير من قناعاتي السابقة. صحيح أنّنا لا نعرف نعمة العافية إلا بعد أن نجرّب المرض، لكن إن كان المرض من النوع الخفيف الذي يجيء ويذهب فالأجدى في هذه الحالة ألا تتعب نفسك بمراجعة الأطبّاء. كما أن الشفاء لا يكمن في الأدوية بالضرورة، بل في تنظيم الحياة واختيار الغذاء السليم والمناسب.
وأختم بكلام قرأته لبعض الحكماء القدامى: أفضل الأطبّاء أشعّة الشمس والماء والراحة والهواء النظيف والتمارين والغذاء السليم. وأفضل وصفة للحفاظ على حياة متوازنة وخالية من العلل والمتاعب هي أن تداوم على الذهاب إلى البحر أو الصحراء عند الفجر وتأمّل الأزهار وقت شروق الشمس والمشي حافي القدمين على العشب. وإذا اضطرّتك الظروف للذهاب إلى طبيب، فحذارِ أن تذهب إلى طبيب توجد في مكتبه أشجار ميّتة!