Off Canvas sidebar is empty

صحوة لحماية قصار القامة للكاتبه سارة السهيل


تواصلا مع قرائي، جاءتني رسالة من مواطن عراقي قصير القامة، اخي في العروبة والوطن والانسانية ، وبقدر ما اسعدني تواصله ، بقدر ما آلمني .
لقد خلقنا الله جميعا أحرارا ومتساوين في الحقوق والواجبات الدنيوية والأخروية، وقرر خلقنا وفقا لمنهجه الإلهي أنه لا فرق لأعجمي علي عربي إلا بالتقوي، وأن الإنسان قيمته الحقيقية ترتبط بعلمه وأخلاقه واجتهاده.

ووفقا لهذا المنهج الإلهي، لا مجال للسخرية من خلق الله من ذوي الاحتياجات الخاصة و قصار القامة ، لأن أيا من هؤلاء  قد يكون عند خالقهم افضل من أسوياء العقل والجسد. وأثبتت الدراسات  العلمية والخبرات الاجتماعية ان معظم هذه الفئات يمتلكون من القدرات الخاصة ومن الملكات ما لا يتوافر لدى كثير من الاصحاء بدنيا .

ولذلك حذرنا الخالق العظيم من السخرية او الاستهزاء بهذه الفئات  " لا يسخر قوم من قوم عسي ان يكونوا خير منهم وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ  وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ  بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ  وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ".

والرسالة الذي بعث بها  اخي المواطن العراقي يشكو من مأساته الاجتماعية بسبب قصر قامته، والمعاناة التي عاناها في طفولته بدءا من الأم الى اغلب محيطه الاجتماعي ، و كبر ولا يزال يعاني من سخرية المجتمع، أن كلماته تدمي قلب من يحمل أي ذرة من انسانية.؟ ولا أدري ما هي المتعة  التي تتحقق عندما يمارس البعض عنفا بالسخرية ضد قصار القامة؟ ولماذا يمارس المجتمع ضدهم  التهميش والاقصاء؟ ولماذا يتجاهل حقهم الانساني بالحلم في تحقيق طموحاتهم ورفعتهم العلمية اسوة بغيرهم ؟


ويعاني قصار القامة في العالم العربي من التمييز والنظرة الدونية التي تبدأ بلقب " قزم " و التعليقات الساخرة داخل الاسرة وفي الشارع وفي مجال العمل،  رغم أنهم مسالمون ويبتعدون عن اضواء المجتمع بسبب التمييز الواقع ضدهم،  رغم تفوقهم الدراسي والمهني اذا ما اتيحت لهم الفرصة المناسبة.

بل إن الأسرة أحيانا تكون اول من يمارس التهميش والسخرية بحق ابنهم قصير القامة ، وأطلاق القاب تهين انسانيته وتجرح احساسه، مثل  سفروت واوذعه وغيره، وقد تدفع السخرية  البعض منهم الي ترك دراسته، بل وعمله ، بينما يحاول البعض التكيف مع هذا الواقع الاحتماعي المهين بالضحك كالبكاء.

وبحسب الدارسين والمتخصصين في مجالات حقوق الانسان، وفي مجال رعاية ذوي الاحتجاجات الخاصة، فان قصار القامة لا يحظون بأية رعاية حكومية تعينهم علي الحياة الكريمة، ومن مظاهر ذلك، انه بالرغم من وجود نسبة لتعيين ذوي الاحتياجات الخاصة في الوظائف وفقاً للقانون المصري، فان قصار القامة لا يدخلون ضمن هذه النسبة.

ويكاد ينحصر الاهتمام بهذه الفئة في المناسبات الاحتفالية الكرنفالية بالاقتصار على تقديم بعض الفقرات الترفيهية فقط كما هو الحال في مصر والجزائر.


إن ثقافتنا الشعبية المتداولة عبر قرون قد كرست لمفهوم مغلوط ينتصر لطول القامة على حساب قصر القامة، وذلك عبر الامثال الشعبية  مثل  "الطول هيبة والقصر خيبة".... وغيرها.

ووفقا لهذا لمنظور الثقافي  الشعبي ، الذي لم يتغير رغم اننا نعيش معطيات الالفية الثالثة للميلاد، ورغم تداخل الحضارات والثقافات في قرية كونية واحدة بفعل معطيات العولمة، فان الكثيرين منا في احسن تقدير انساني يتعامل مع قصير القامة بنظرة شفقة داخلية، او التعجب من وضعه الخلقي دون ان يمد له يد المساعدة في اي مجال، بينما تذهب الاكثرية من البشر الي اطلاق لقب قزم عليهم من باب التصغير والاحتقار، وهو لقب رغم صحته لغويا، الا أن له أثر سلبي على مسامع قصار القامة.

ومن المنظور الاجتماعي والثقافي السائد  والمغلوط الاعتقاد بأن قصار القامة محدودي القدرات العقلية ، وانهم لديهم مشكلات نفسية واضطرابات شخصية تجعل المجتمع يعاملهم كأطفال صغار، وهي نظرة مغلوطة كرستها السينما والمسرح في عالمنا العربي ، حينما جعل من  قصار القامة مادة للترفيه والضحك.

وهذا المنظور الثقافي الشعبي  البالي يحتاج الي تدمير فوري ، وتحطيمه ببناء ثقافي جديد يكرس للمساوة بين البشر، خاصة وان التاريخ الانساني قد أنبائنا بأن الكثير من مشاهير العالم كانوا من قصار القامة مثل الإسكندر المقدوني وبونابرت وستالين وهتلر وغيرهم.

إن الموقف العلمي من قصار القامة ينفي كل هذه الافتراءات بحق قصار القامة، ويؤكد حسب الاطباء الخبراء في أمراض الغدد الصماء، ان التقزم يأتي نتيجة حالة مرضية تنتج عن نقص كبير في هرمون النمو مع الولادة، ولكن التقزم لا يؤثر على مستوى الذكاء والإدراك، فعلمياً يشير مصطلح التقزم إلى خلل يسبب تباطؤ النمو لدى الأطفال، وإن كانوا يعانون من مشكلات صحية بسبب تأخر نمو العظام مما يؤدي لإصابتهم أمراض المفاصل والآلام في الأطراف السفلية والركبة والجهاز الهضمي.

غير أن خبراء الطب النفسي والاجتماعي  يؤكدون ان قصار القامة يعانون من مشكلات نفسية جراء نظرة المجتمع الدونية وعدم توافر رعاية حكومية لظروفهم تعليما وصحيا واجتماعيا ووظيفيا ومن ثم فان قصار القامة قد يواجهون مشكلات الأمية والبطالة والفقر، وقد يضطر بعضهم لمغادرة مقاعد المدرسة مبكراً بسبب نظرات الاستهزاء والسخرية من زملائه، كما أنهم قد يجدون صعوبة في توافر أماكن خاصة بهم للجلوس في المقاهي والمطاعم مما يعرضهم لكثير من الألم النفسي والعزلة الاجتماعية.

وبموجب ذلك، فان قصار القامة اكثر تعرضا للعقد النفسية، خاصة المتعلقة بتقدير الذات والشعور بالدونية ، غير ان مساعدة المجتمع لهم بدءا من البيت والمدرسة والمجتمع قد تساعدهم في توفير مناعة ضد هذه العقد النفسية.

إن التجاهل الحكومي والإقصاء والتهميش بحق قصار القامة في عالمنا العربي أدي إلي غياب إحصائيات رسمية بعدد قصار القامة، وما يتوافر من بيانات بشـأنهم تعد ارقاما تقريبية، ففي العراق يقدر عددهم بأكثر من ثمانية آلاف قصيرة وقصير، مقابل مائة الف تقريبا في مصر.
ورغم هذا التجاهل الحكومي، صمد قصار القامة في العراق وبذلوا قصاري جهدهم لكي يكون لهم صوت مسموع في المجتمع وتحقق لهم النصر في معركتهم، حيث  أقر قانون 38 لسنة 2013 ،  لحقوق قصار القامة ذكر  بشكل صريح لأول مرة".
واستطاع بعضهم ان يتحدى بروحه الانسانية الوثابة هذا الاقصاء والتهميش الي حد  قيام محمد عيدان جبار رئيس جمعية قصير العراقية، لترشيح نفسه للانتخابات البرلمانية عام 2014 ، ليطالب  بتوفير وظائف ومعاش وتأمين صحي وضمان اجتماعي، وللحصول  الاعتراف بحقوق المواطنة لقصير القامة وللعمل علي رفع الوعي بأهمية قبول المجتمع لدوره الانساني اسوة  بالمواطنين الآخرين.
كما طالب قصار القامة في كوردستان العراق بتخصيص مقعد لهم في برلمان الإقليم حالهم حال الأقليات الإثنية أو الكوتا. ونظم بعضهم مسابقة "ملكة جمال قصار القامة" التي أقيمت في دهوك مما يعكس روحهم الصامدة في مواجهة التحديات والقدرة علي إثبات الذات.
 
وفي المغرب وتحت اسم "قصيرات القامة ملكات على عرش الفتنة"، أسست المغربية سلوى سوزي (28عاماً) مجموعة للتعارف بين قصار القامة على فيسبوك، بهدف مواجهة مشكلة اختيار شريك العمر من بين قصار القامة.
أما في مصر، فيعاني قصار القامة ثقافة اجتماعية مغلوطة ومن اجحاف قانوني، وقد يلقي بعضهم حتفه بالموت نتيجة التجاهل الحكومي نتيجة عدم تصنيفهم ضمن فئات  الاعاقة. ورغم ذلك قرر كثير منهم دخول سباق التحدي وحقق شهرة في مجال السينما مثل محمد عيد.
 
ونجح بعض قصار القامة في مصر في اختراق عزلتهم الاجتماعية من خلال اجتماعهم في مقاهي معروفة لهم في وسط القاهرة واقامة علاقات صداقة وطيدة فيما بينهم، لكنهم يطالبون الدولة بضرورة ادخالهم ضمن التأمينات الاجتماعية لكى يتوافر لهم العلاج من المرض على نفقة الدولة.
 نحن  نطالب بتوفير وظائف ومعاش وتأمين صحي وضمان اجتماعي و اجازة سواقة ، و الاعتراف بحقوق المواطنة للقزم أو قصير القامة والتأكيد على رفع الوعي لتقبّله في المجتمع حاله حال أقرانه المواطنين الآخرين
 
وفي مدينة الإسكندرية المصرية أسس عصام شحاته رئيس جمعية الأقزام المصرية مصنعاً لإنتاج ملابس قصار القامة، يديره هو ويشرف عليه ويعمل فيه قصار قامة ويعتبر الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط، في ظل عدم وجود خط انتاج من الملابس المناسبة لقصار القامة.
اما حنان فؤاد، فقد تحدت قصر قامتها بتحقيق بطولات دولية لمصر في رفع الأثقال لترد بشكل عملي علي كل من يهين عقل وقدرات ونفسية كل من يعاني من قصر القامة، كما حققت بطولات محلية وحصدت عدة ميداليات ذهبية وفضية.
 
كلمة حق
لاشك ان المعاناة التي يعيشها قصار القامة تحتاج الي ثورة ثقافية تعمل علي نشر الوعي بأهمية وحقوق قصار القامة وتناهض كل اشكال التمييز ضدهم وتحارب الاقصاء الاجتماعي بحقهم، بما يؤدي الي تغيير النظرة الدونية بشأنهم ويوقف فورا السخرية منهم او توظيفهم كمادة للسخرية والضحك.
 
وهذه الثورة الثقافية تطلب تضافر جهود المؤسسات الثقافية والاعلامية والمؤسسات الدينية في المساجد والكنائس والمنظمات الحقوقية لتغيير نظرة المجتمع تجاه فئة قصار القامة وتحويلها الي نظرة ايجابية تعترف بحقهم الانساني المساواة بغيرهم في التعلم والصحة والزواج والمسكن والعمل.
 
ولكن هذه الثقافة المأمولة لا يمكن تحقيقها علي أرض الواقع بمعزل عن سن قوانين وتشريعات قانونية ودستورية تكفل حقهم  في المساواة ومعاقبة من يمتهن كرامتهم الانسانية.
ومن أولي هذه الخطوات القانونية اعتراف الحكومات العربية  بحقوق قصار القامة .
 
وكانت دولة الإمارات  قدمت نموذجا مهما في رعاية قصار القامة، والاعتراف بهم وبحقوقهم وتمنحهم الرعاية الصحية والمعاشات والرعاية الاجتماعية، وهذه التجربة ـ في تقديري ـ يجب احتذاؤها وتعميمها في العالم العربي وتطويرها بما يرفع من شأنهم الاجتماعي.
 
واعتقد انه من الضروري  ان تسرع البرلمانات العربية بسن قوانين  تحفظ حقوقهم ويتم تنفيذها عمليا بما يسهم في رفع الظلم الواقع عنهم، بحيث يتم التعامل القانوني معهم باعتبارهم مواطنون من الدرجة الاولي، مع بذل المنظمات الحقوقية دورا اكبر في الضغط  ثقافيا واعلاميا وقانونيا لإعادة دمج قصار القامة في المجتمع وفق منظور حقوقي ينتشلهم من التمييز الي الحضور الاجتماعي الفاعل.