Off Canvas sidebar is empty

بيكاسو وقف ضد الجمال في المتاحف وانتصر للبدائية الخلاقة


مدريد - يعد الإسباني بابلو بيكاسو من أشهر الفنانين العالميين، نظرا إلى ما لفنه من بالغ الأثر في الحركة الفنية العالمية، ليس فقط من خلال تأسيسه للمدرسة التكعيبية، وإنما في فتحه الفنون الأوروبية على فنون أخرى، قادمة من أعماق حضارات الشعوب البدائية كالأفريقية وغيرها. حيث غاص بيكاسو عميقا في فنون إنسانية لم يكن العالم على عهد بها، ومنها استلهم الكثير من أعماله.

"بيكاسو بدائيّا" هو عنوان معرض ثريّ يقام في متحف رصيف برانلي–جاك شيراك بباريس ويتواصل حتى نهاية شهر يوليو الجاري، ليكشف عن جذور علاقة بابلو بيكاسو بالفنون البدائية أو الأولى، منذ أن اكتشفها صدفة في مطلع القرن العشرين، وعلاقته الوثيقة بأعمال قادمة من أفريقيا وآسيا وأوقيانوسيا، كان لها أثر عميق في تطور تجربته الفنية.

بدأت علاقة بيكاسو بالفن البدائي عام 1906، عندما اكتشف في بيت صديقه الفنان أندري دوران (1880-1954) قناعا من صنع قبائل الفانغ في الغابون كان اشتراه فنان آخر هو موريس فلامينك (1876-1958) بسعر رمزي لا يتعدى خمسين فرنكا. في تلك السنة أيضا، صادف أن زار بيكاسو متحف تروكاديرو بباريس (متحف الإنسان حاليا)، فخرج منه مأخوذا بما رأى.

يذكر أندري مالرو أن بيكاسو حدثه عن تلك الزيارة فقال “كان شيئا مقززا، كأني في سوق أسمال بالية وخردوات، فضلا عن الرائحة الكريهة. ورغم ذلك بقيت. كنت وحيدا، فبقيت وبقيت. أدركت أن ذلك في غاية الأهمية: شيء ما حدث لي… أيقنت أني فنان”.

وأضاف في موضع آخر “أرغمت نفسي على البقاء، وتأمل تلك الأقنعة، كل تلك الأشياء التي صنعها رجال لغاية مقدسة، سحرية، كي يكونوا وسطاء بينها وبين القوى المجهولة المعادية التي كانت تحيط بهم، محاولين تجاوز رعبهم بإعطاء تلك الأشياء أشكالا وألوانا. عندئذ فهمت أن ذلك هو معنى الفن. الفن ليس مسارا جماليا، بل شكلٌ من السحر يفصل بيننا وبين العالم المعادي، طريقة للإمساك بالنفوذ، من خلال فرض شكل لمفازعنا ورغائبنا. يوم فهمت ذلك، علمت أني وجدت ضالتي”.

    المعرض وإن حمل اسم واحد من أكبر فناني القرن الـ20 فقد كان طريقة ذكية لتسليط الضوء على الفنون غير الأوروبية

في تلك السنة، أقبل على شراء أول عمل فني غير غربي، “تيكي” من جزر الماركيز، وهو عبارة عن منحوتة بدائية تمثل إنسانا أو إلها، فالـ”تيكي” في اللهجة التاهيتية تعني الاثنين، وتعني أيضا الإنسان الإله. من هنا تولدت لوحته الشهيرة “آنسات أفينيون” التي قال عنها إنها أول لوحةِ رُقْية له، مستوحاة مباشرة من حبه الجديد للفن غير الغربي. والحال أنه كان قبلها يتطير من مفرداته، فمما يروى أن ماتيس أهداه مرة تميمة زنجية ذات مسامير، فردها عليه قائلا “أتريد أن تسحرني؟”.

هذا المعرض، الذي اتبع مسارا زمنيا خطيا يمتد من 1906 إلى 1974 (أي سنة قبل وفاة الفنان الأندلسي)، صيغ وفق مقاربتين متكاملتين، تهدف الأولى إلى رصد كرونولوجي دقيق لالتقاء بيكاسو بالفنون البدائية، والأعمال التي اقتناها، والأخرى التي عاشرته، ويتبدى في صور كثيرة في مرسمه ببلدة بواجلو في مقاطعة أور على بعد نحو ستين كيلومترا غربي باريس، إلى جانب تمائم ومنحوتات وطواطم وشهادات لأصدقائه في تلك الفترة لا سيما دوران وأبولينير وماتيس.وترمي الثانية إلى الوقوف على عمل بيكاسو في حوار ثري مع أعمال فنانين مجهولين غير غربيين.

الفن البدائي ينظر إليه هنا كفعل أول، فعل خلاق وأساس، يتخذ أشكالا غنية عن الخطاب. فالجسد مثلا، سواء عبّر عن رغبة أو خوف، يبدو تارة معظَّما ممجَّدًا، وطورًا محرَّفًا، فيصبح رهان كل التحولات التشكيلية بعيدا عن تمثل الواقع. ونكتشف التساؤلات المماثلة التي طرحت على الفنانين (إشكاليات العري، الجنس، الغرائز، الضياع، الفقد) وأجابوا عنها بحلول تشكيلية متوازية (تحريف الأجساد أو تفكيكها مثلا)، فلا تغدو البدائية حينئذ كمرحلة تخلف، وإنما كسبيل إلى الطبقات الأكثر عمقًا وحميميةً وتأسيسًا للكائن البشري.

وهو ما يعكسه التطور المذهل في عمل بيكاسو، فقد سعى على مدى سنوات لاستكشاف الأشكال الأولية، والهندسية، والمبسطة، واختار حرية شكلية تخالف التقاليد الفنية السائدة في تلك الفترة. حيث تضاءل الجسد إلى خطوط أساسية، مجرد خط أو مجرد كتلة، في وضع عمودي في الغالب، مثل الوقفة النموذجية لحاملة الكوب التي نجدها في عدة حضارات.

هذا الفرع ينقسم إلى ثلاثة محاور هي النموذج المثالي، التحول والأنا بالمعنى الفرويدي، ليترجم أهمية الاندفاع (أو الانجذاب) والغريزة، والحياة أو الموت، والخلق أو التفكيك. فقد كان بيكاسو يخلط ويعجن الأجساد مثل كيانات سحرية، فيستعيض عن النظر بثقبين، ويستعيد الأقنعة، ويظهر الفم في شكل رخوي أو مهبل ذي أسنان، إذ قلّ أن جاب أحد مثله مسألة الجنس. قبيل وفاته، قال بيكاسو متحدثا عن تجربته مع الفنون البدائية “عندما اكتشفت الفن الزنجي، وأنجزت ما صار يسمى بمرحلتي الزنجية، كان ذلك من أجل الوقوف ضد ما يسمى بالجمال في المتاحف”.

والمعرض في الختام، وإن حمل اسم واحد من أكبر فناني القرن العشرين، وتتبع تحوله وتطور رؤيته الفنية، وتأثره العميق بفنون بعيدة عن الأكاديميات الغربية، إنما كان طريقة ذكية لتسليط الضوء على الفنون غير الأوروبية. فهو يحتوي على نحو ثلاث مئة عمل، مئة وسبعة منها فقط لبيكاسو.