Off Canvas sidebar is empty

"القناع" في الذاكرة الفنية للناقد اسعد عرابي

"القناع" في الذاكرة الفنية
 في الذاكرة الفنية قناع كورونا يستعير لوحة رينيه ماغريت "الحبيبان" شارك هذا المقال حجم الخط يملك "قناع الكورونا"، المصائبي الحديث، أصولًا ميثولوجية وفنية وحضارية وسحرية وأنطولوجية وأنثروبولوجية قد تصل في غورها حد التطابق مع الفنون السحرية والصناعات البدائية للإنسان الأول. ما بين "كرومانيون"، وأوشام وتبرجات وإكسسورات تطور "الهوموسابيان"، والمسجلة ليس فقط في آثار رفاته الباقية، وإنما خاصة من خلال تأمل تفاصيل رسومه الجدارية المصورة عبر أجيال وآلاف السنين المتوارثة (مثل تبصيمة يده)، والتي تستعيد غرافيكيًا الإشارات السيميولوجية الأولى بوضعها على الوجه: خطوطًا وزخارف طقوسية. يجابه بها وعورة تلبية غريزة البقاء عن طريق الصيد. إن رسم الوجوه الأقرب إلى الأقنعة، ورسم الأقنعة بمواد بكر على الوجه، ما هي إلا صبوة فطرية للـ"تقمص". لعله أول ظواهر التطير والحماية من عنف البيئة، ومجتمع الطرائد التي يلاحقها في سهام رسومه متقمصًا بلوغه قتلها، وبذلك تتحول الغريزة والحاجة والرغبة في الصيد إلى خطوط وألوان تقمصية. لعلها بداية تظاهر التقنع والتبرج والماكياج المقدس. لوحة لرينيه ماغريت من مجموعة "الحبيبان" * نعثر على كنوز معابدها وفريسكاتها الباقية في تصاوير كهوف الإنسان الأول، ما بين إسبانيا وفرنسا والجزائر وسواها، ما بين "التاميرا"، و"لاسكو"، وآخر كهف: "شوفي" الذي يرجع إلى أربعين ألف عام. * علينا بالاعتراف الأثري: بأن تفاصيل الإنسان الأول مغلفة بشيء من الضباب والإبهام في "رسم الوجوه الأقرب إلى الأقنعة، ورسم الأقنعة بمواد بكر على الوجه، ما هي إلا صبوة فطرية للـ"تقمص"" توثيقها الأنثروبولوجي، علينا من أجل استدراك هذه الفجوة أن نتعقب رواسب التقمص السحري، أو الميتافيزيقي، المتمثل في تعديل وظيفية البورترية ومواصفاته المرتبطة بالحواس الخمسة. ابتداءً من تدخل الهندوس بوضع علامة دائرية حمراء يختم بها ما بين العينين (في قطب الجبين). فإذا تراجعنا أكثر إلى الأقنعة التي كانت توسم بـ"الشامانية"، أو "البدائية"، من بقايا سكان الألسكا، والثقافة البولينيزية، في جزر المحيط الهادئ، أو في مرامي سهوب أستراليا، أو كندا، أو الصحراء عمومًا (ما بين بادية الشام، والجزيرة العربية، ونيفادا الأميركية)، لعثرنا على خرائط طبوغرافية تغطي الوجوه بصيغة صريحة يحتكر فيها رأس القبيلة (الساحر، أو الشامان) الغطاء الطقوسي السحري الكامل للرأس، وأحيانًا للجسم، بما يهيئ له قيادة طقوس الرقص، والاستغراق التقمصي في مجاهدات وجودية روحية تطرد الأرواح الشريرة. لعلها سليلة حضارات مزدهرة، مثل الأنكا، والأزتيك، ولعل أهم سلالتها ما يدعى بالهنود الحمر، بما يمسحون به وجوههم وأوشامهم من اللون الأحمر، وتطويق أنواع الرياش لملامح الرأس، خاصة أثناء الحرب (كذلك الأمر بالنسبة إلى طوارق شمال أفريقيا). لا شك بأن تحفة متحف "برونلي - شيراك" تحفل مخازنها وواجهات عرضها بأصناف النماذج المقنعة بمواد شطحية جعلت الرئيس شيراك يدعوها بـ"الفنون الأولى" (بدلًا من البدائية)، خاصة وأنه تبرع بأبرز مجموعة عن حضارة الهنود الحمر وإكسسواراتها الموروثة، بالتوازي مع الثقافة البولينيزية لجزر المحيط الهادئ، على غرار جزيرة الباك، بمنحوتات رؤوسها (الأقنعة العملاقة بامتداد عشرة أمتار). يحفظ متحف "غيمي" بدوره أنماطًا من رؤوس الساموراي اليابانية المقنعة، كما هي حالات نحت المحاربين الصينيين المخفية تحت الأرض. والتابعة للمدينة الإمبراطورية المحرمة. المخرج فيلليني يرتدي قناعاً * نلاحظ بأنه منذ العهد الإغريقي، ثم الروماني، ثم الهلنستي (ما بين الإسكندر المقدوني "يحفظ متحف "غيمي" أنماطًا من رؤوس الساموراي اليابانية المقنعة، كما هي حالات نحت المحاربين الصينيين المخفية تحت الأرض" وهانيبال) بأن الخوذة الحربية تطور امتدادها حتى غطت الرأس بكامله، وحتى قبل ذلك لدى محاربي داريوس وبابل وآشور وعيلام ودلمون وفينيقيا وعموريا، وحتى محاربي الأنباط والتدامرة، كانوا محجوبي الوجوه للحماية وإثارة الرعب في قلوب الأعداء، من أبلغ أمثلتها في القرن الثالث عشر جحافل محاربي التتر والمغول. أما القناع المزدوج من الأمام والخلف في كرنفالات فينيسيا فيرجع في تقاليده حتى اليونان وصب الوجوه المتوفاة. وصولًا حتى اكتشاف بيكاسو للأقنعة الأفريقية. *** تكاد تكون الحضارة الفرعونية منذ الألف الرابع قبل الميلاد مغطاة الوجه في أوابدها ومعابدها، بفضل أسرار التحنيط والتكفين وحجب المستور، باعتبارها حضارة الموت بجلاله المتخفي خلف أقنعة الذهب والتبرج الفني: تمثالا نفرتيتي وأخناتون ما هما إلا غلافان لطقوس احتفائية في المعبد لوجهيهما المقدسين، وكذلك توت عنخ آمون، هو الذي يحفظ مثل سواه في أضرحة مدفنية عصية المنال مع ثروته الدنيوية، لأن غلاف صندوقها كان متعدد الطبقات، مثل الدمى الروسية. متعدد الأحجبة مثله مثل الأهرامات وما تحجبه كأضرحة عملاقة من وجوه ورؤوس السلالة الحاكمة (مثل الهكسوس)، تدفن عائلة الفرعون بعد موت فرعونها فتموت معه تطبق عليها متاهات معمارية رياضية إلى الأبد. توت عنخ آمون.. قناع ذهبي يغطي الوجه المحنط اختلطت في حضارة دلمون الرافدية التقاليد المدفنية المصرية (منذ الألف الثالث قبل الميلاد) حتى وجدنا أكبر جزرها المحرق مفروشة بوهادواكمات تغطي مقابرها المدفونة تحت الأرض، ينطبق عليها قول أبو العلاء المعري: "صاح خفف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد" الأصل الحديث لقناع الكورونا تبدو أنواع الحجاب النسائي الشائع في المجتمعات العربية - الإسلامية (من البرقع إلى الملاءة إلى غطاء الرأس) سليلة تقاليد محلية متداخلة ترسخت مع الفترة العثمانية. فقد أثبتت في دراسة أكاديمية نشرت منذ فترة بعيدة عن طريق الناقدة الجليلة الجامعية الدكتورة خالدة سعيد بأن تصاوير المخطوطات حتى نهاية القرن الرابع عشر (المنمنمات والحليات) لم تشتمل على أي تمثيل للحجاب، مما يؤيد رأي كثيرين بأنها غير ملزمة بأي نص قرآني، أو حديث، وأنها انتعشت كتقاليد إسلامية، وليست كعقائد لاهوتية. ما يدخل في البحث في هذا المقام بعيدًا عن هذا الجدل الذي أثبت عقمه هو غطاء الوجه بالأسود، ومحق ملامحه حتى ليبدو أشد قربًا من الأقنعة الكورونية السوداء الأخيرة. أحد أقنعة كرنفال فينيسيا وحتى نقترب أكثر من حداثة القناع (الماسك) المصائبي الكوروني (ما بعد الحداثي - ما بعد العولمي) علينا أن نعبر من ذكر سابقه، أو جَدِّه الشرعي، المتمثل في شيوع صور "ماسك الغاز" في الحرب العالمية الأولى، ثم ما بين الحربين في لوحات ومحفورات، خاصة الفنانين التعبيريين الألمان (مثل غروز). نتلمس الأصول هذه في فتحة "ديساينر" التصميم المحترف لطراز الجراحين الواقي (FFP2)، بتصميم قلنسوته التنفسية الأمامية المستعارة صراحة من السابق. هو أحد شواهد الذاكرة الإجرامية لأفران الغاز (الشوا) التي استخدمها نازيو الحرب العالمية الثانية. أقنعة الفنان جيمس أنسور * إذا عدنا إلى موضوع البحث عن الأصول المضمرة لـ"قناع الكورونا" وتصاميمه المتعددة اليوم، وجدناها أكيدة لدى تجربة أبرز السورياليين البلجيكيين في بداية القرن العشرين وهو: "رينيه ماغريت"، ومن خلال مجموعة لوحاته الشهيرة بعنوان "الحبيبان" اللذان يتبادلان "في لوحات مجموعة "الحبيبين" لـ"رينيه ماغريت"، يتبادل الحبيبان العناق والقبلات عبر حجاب قماشي كتيم يخفي كامل الوجه، وكأنها علاقة سرية مكتومة!" العناق والقبلات عبر حجاب قماشي كتيم يخفي كامل الوجه، وكأنها علاقة سرية مكتومة!. هي المجموعة التي أوحت لي بمعالجة هذا الموضوع، مع إسقاطاته على "ماسكات الكورونا" بالملايين اليوم، وكأن مواطن الكوكب شطب ملامح وجهه عنوة، هذه المرة لأسباب صحية درءًا من الفيروس اللعين، وليس لأسباب فنية، أو بسيكولوجية، أو سحرية، بالعكس فارتداؤه يسبب ضيقًا في التنفس، ويقود أحيانًا إلى الاكتئاب الهمودي. هو ما يذكرنا بأن السوريالية كانت انعكاسًا ميتافيزيقيًا لعالم التحليل النفسي سيغموند فرويد (أحد أحفاده اليوم فنان معروف يحمل اسمه) وقرينه يونغ الذي يعتمد على فنية "التداعي". وهو الاتجاه الذي اختاره ماغريت ابتداء من صورة الغليون: يكتب عليه هذا ليس بغليون، مثيرًا ركامًا من التداعيات السيميولوجية التي تمليها هذه المفارقة، ومثلها "المحبان"، ولعله من الجدير بالذكر أن لوحته بدأت تتسرب إلى أغلفة عدد محدود من المجلات، إشارة إلى أن جائحة الكورونا هي التي فقدت أغلب الدول اليوم السيطرة على انتشارها.