Off Canvas sidebar is empty

فيلم "كليوباترا"...أخطاء تصحيح التاريخ

شو في نيوز -  فيلم "الملكة كليوباترا" التي عرضته منصة "نتفليكس" الأمريكية أثار غضب كثير من المصريين، لكن الناقد شادي بطرس يعتبر أن ما قدمته نتفليكس لم يكن تاريخاً بديلاً، بل محاولة إعادة كتابة التاريخ الملَكي المدوّن من أعلى، من دون مشقة تفكيك ذلك الماضي الذكوري ومركزيته الغربية.

ثمة ماض مطلق، لا يربطه بالحاضر أيٌّ من وشائج الانتساب، هو مغلق على ذاته مثل حلقة، ومكتمل ومعزول عن أي أزمنة لاحقة، ذاك نتبيّنه في الأسطورة في أوضح صورة.

وثمة صنفان آخران، ماض تام وآخر غير تام، كلاهما يرتبط بالحاضر بطريقة ما، الأول محسوم باكتمال أحداثه، أما الثاني- وهو الأقرب في الزمن عادة- فتظل مجرياته مشرّعة على الاحتمال والتبدلات. لكن، وفي عصر الهويات، وبالأخص في زمن الإعلام الكثيف، تتداخل تلك الأزمنة ويُعاد ترتيبها، فيصير التام غير تام، وغير التام مطلقاً، باستجلاب الموغل في القدم إلى جدالات اليوم، وباستنزال الأسطوري إلى مرتبة التاريخ السياسي.

بعد أسابيع من الضجيج حول الوثائقي الذي لم يكن أحد قد شاهده بعد، أصبح وثائقي "كليوباترا" متاحاً عبر منصة نتفليكس. في الدقائق الافتتاحية من الحلقة الأولى للسلسلة الوثائقية-الدرامية، تعلّق إحدى الخبيرات بأن والدتها أخبرتها يوماً بأن "تنسى ما تعلمته في المدرسة"، وبحسب قناعتها "كليوباترا سوداء".

كان ذلك المشهد متضمناً في إعلان السلسلة، وهو تحديداً ما استدعى الكثير من ردود الأفعال الناقدة. تشتمل تلك العبارة الاستهلالية على أمرَين، هما وَعد سرعان ما سيتضح خواؤه والتباسه. فالدعوة إلى نسيان السرد المدرسي، تتوافق مع التقاليد المعاصرة لكتابة التاريخ البديل، تلك التي تنطلق من النسيان والتحرّر من المؤسسي والراسخ. هكذا يبدو وكأن رواية جديدة على وشك الانفضاض أمام عيوننا. لكن ما نلاقيه هو مجرد زعم بمرجعية غامضة. فسَواد كليوباترا يأتي على لسان "الخبيرة"، ما يوحي بنوع من المرجعية، إلا أنه يفتقد لأي سلطة للصدق، سوى قناعة الأم الأشبه بإيمان غيبي. هل علينا أن نأخذ سواد كليوباترا على محمل الجد؟

لاحقاً، يعتمد صنّاع الوثائقي على عدم يقين تاريخي بشأن هوية والدة كليوباترا، ويخمنون بأنها من أمّ مصرية، وينسحب الأمر على والدها مجهول الأم في السند التاريخي، فهي أيضاً قد تكون مصرية، وبذلك فإن كليوباترا نصف مصرية أو أكثر.

هذه الفرضية، لا تبقى إثنية فقط، بل في مشهد بعد آخر، يتم تدعيمها على أسس أخرى. ثقافياً، فهي أول من تعلم اللغة المصرية من البطالمة. وعاطفياً، فالملكة تظهر متعلقة بشعبها من المصريين.

هل تنتج مصر فيلما وثائقيا أكثر دقة عن كليوباترا ردا على فيلم نتفليكس؟ 

عملية تمصير كليوباترا، وبالتالي أَفرَقَتها، كي تنصب ملكة أفريقية، تبعتها خطوة أخرى أكثر أهمية، هي إعادة تأهيلها تاريخياً. لكن النوايا الحسنة وحدها ليست كافية، فما قدمته نتفليكس لم يكن تاريخاً بديلاً، بل اعادى كتابة التاريخ الملَكي المدوّن من أعلى، من دون مشقة تفكيك ذلك الماضي الذكوري ومركزيته الغربية، كما يكتب الناقد شادي بطرس.

لا تدّعي السلسلة أبداً أن كليوباترا سوداء، ولا تحاول الاستيلاء على التاريخ المصري، كما كان يخشى البعض. بل على العكس يظهر صنّاعها معنيين بتمصير كليوباترا، بل والمبالغة في هذا عبر التخمين والافتراض وربما بعض الاختلاق. وبالوضوح نفسه، لا يتم الزعم بأن المصريين سود البشرة، ففي مقطع جليّ في مباشرته، وتفصيلي، تشير خبيرة أخرى إلى أن المصريين كانوا متنوعين إثنياً، وخليطاً من محليين ويونانيين ويهود، وتفاوتت ألوانهم من السُّمرة الفاتح إلى البشرة الداكنة، مثل سكان السودان في الجنوب.

نسخة استهلاكية من مشاريع تصحيح التاريخ

الحال أن عملية تمصير كليوباترا، وبالتالي أَفرَقَتها، كي تنصب ملكة أفريقية، تبعتها خطوة أخرى متوقعة وأكثر أهمية، هي إعادة تأهيلها تاريخياً. فكليوباترا نتفليكس، لا تعود امرأة فاسقة كما في السجلات الرومانية، ولا هي كليوباترا هوليوود الأنثى المغوية، ولا هي مستبدة مسرحية برنارد شو.

من المشهد الأول، نراها منكبة على تحصيل العلم في مكتبة، فبالإضافة لكونها سياسية محنكة، هي عالمة ولغوية متبحرة بحسب الوثائقي. ومع ولوج المجريات الدموية للصراع العائلي على السلطة، والذي تورطت فيها الملكة البطلمية، وتحوله إلى حرب أهلية مفتوحة، فإن صنّاع السلسلة يبدون مصمّمين على التخفيف من وطء القسوة المتضمنة في المؤامرات والمعارك ودسائس القصر وتفاصيل القتل والنفي، بل والإلحاح على تبريرها، ولو ضمنياً، فذلك هو المسار المعتاد لوراثة العرش داخل السلالة البطلمية.

يقدم كليوباترا، نسخة استهلاكية من مشاريع تصحيح التاريخ، بركاكة شديدة وبإمكانات إنتاجية متواضعة، ساعياً لإنجاز مهمتين معاً. فبإضافة هالة الجلال على كليوباترا، كملكة أفريقية، يطمح إلى تعويض ندرة حضور النساء في السجل التاريخي، وبالقدر نفسه وبضربة واحدة، يأمل في خلخلة المركزية الأوروبية واستئثارها بالمتن البطولي.

لكن النوايا الحسنة وحدها ليست كافية، فما قدمته نتفليكس لم يكن تاريخاً بديلاً، بل التاريخ نفسه، التاريخ الملَكي المدوّن من أعلى، والمحتفي بالسلطة وتبريراتها، من دون مشقة تفكيك ذلك الماضي الذكوري ومركزيته الغربية واستبداله، بل على العكس التماهي معه، ومنحة صك الأخلاقية بتنصيب امرأة "ملونة" بين آخرين على قمته.

شادي لويس

حقوق النشر: المدن 2023

هذا المقال نشر أولا في صحيفة المدن.

شادي لويس، كاتب وأخصّائي نفسي مصري، مقيم في لندن، مهتمّ بتحليل البنية السيكولوجية للخطاب السياسي في المنطقة العربية.