Off Canvas sidebar is empty

فيلم "مستر جونز" يجسد الوجهين المتناقضين للصحافة


واشنطن - رغم ما تواجهه الصحافة من هجمات واتهامات بالكذب والتضليل إلا أنها تبقى ركيزة أساسية للديمقراطية، وسيبقى الصحافيون هدفا للسياسيين طالما أنهم يسعون وراء الحقيقة التي يحاول السياسيون جاهدين إخفاءها منذ عهد ستالين حتى عصر ترامب اليوم وما بينهما.

لندن – تحولت قصة الصحافي الإنكليزي غاريث جونز الذي كشف فظائع المجاعة التي أحدثها الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، إلى فيلم سينمائي بعنوان “مستر جونز” أخرجته البولندية أنييشكا هولاند.

يرصد الفيلم نموذجين متناقضين للصحافي، أحدهما والتر دورانتي، مدير تحرير مكتب “نيويورك تايمز” في موسكو وهو صحافي نال جائزة بوليتزر عن مجموعة من المقالات نفى فيها عمليات التجويع الحاصلة.

ويؤدي الممثل بيتر سارسغارد دور دورانتي الذي اتهم بتلفيق شهادة شهود العيان، رغم أن الكثيرين يشيرون إلى أن دورانتي نفسه كان يعرف حجم هذه المجاعة، لكنه كان مقربا من النظام السوفييتي ويرجح آخرون أنه قد تعرض لضغوط.

والنموذج الآخر الصحافي غاريث جونز الذي توجه إلى موسكو، بحجة إجراء مقابلة مع جوزيف ستالين كما فعل مع الزعيم النازي أدولف هتلر سابقا، لكنه في حقيقة الأمر كان يهدف إلى التسلل إلى أوكرانيا التي يُحظر على الصحافيين دخولها.

وجسد الممثل جيمس نورتون شخصية جونز، الذي ذاع صيته بعد المقابلة التي أجراها مع هتلر، عندما وجد نفسه مصادفة مع الزعيم النازي في الطائرة نفسها.

أغنيسكا هولاند: تخاذل السياسيين وفساد الإعلام ولامبالاة العامة، هذا ما فتح الباب أمام كوارث القرن العشرينأغنيسكا هولاند: تخاذل السياسيين وفساد الإعلام ولامبالاة العامة، هذا ما فتح الباب أمام كوارث القرن العشرين

وكتب لاحقا جونز عن المشاهد المروعة لآثار المجاعة “الجميع يصرخون بسبب عدم وجود خبز، والموت مصيرهم!”.

وقالت هولاند إنها اهتمت بالسيناريو الذي كتبته أندريا تشالوبا بسبب الموت الجماعي الذي شكّل جزءًا من تلك المرحلة القاتمة في تاريخ أوروبا والتي ما زالت غير معروفة كثيرًا.

وأضافت “شعرت بأن أشباح تلك الجريمة تنادي للإضاءة عليها بشكل أو بآخر، وللحصول على العدالة. فشعرت بأنها مهمة أخلاقية عندما قرأته (السيناريو)”.

وأوضحت أن القصة التي تدور بين العامَين 1932 و1933 عندما حصلت المجاعة في الحقبة السوفييتية -وهي مسألة ينظر إليها اليوم كمجزرة أمَر بها ستالين- تقدّم دروسًا مناسبة اليوم عن الطريقة التي تُدمَّر من خلالها المجتمعات من الداخل.

وأشارت هولاند إلى أنها تعتقد أنه “لا يمكن الحصول على ديمقراطية بلا صحافة حرة، فهذا المثلث الذي نحاول أن نظهره، تخاذل السياسيين وفساد الإعلام ولامبالاة العامة أو المجتمعات، هو ما فتح الباب أمام كوارث القرن العشرين”.

وحصلت المجاعة إثر تضاؤل المحاصيل، وفرضت شرطة ستالين سياسة صارمة تمثلت في مصادرة الحبوب والمواد الغذائية الأخرى من المزارع.

وتتردد عبارات الكاتب الإنكليزي جورج أورويل في روايته “مزرعة الحيوانات”، خلال مشاهد الفيلم الذي تصل مدته إلى 141 دقيقة، مثل “كل الحيوانات سواسية، ولكن بعضها متساو أكثر من البعض”.

وتقول إيما جونز في تقرير لـ”بي بي سي”، يلقي الفيلم الضوء على الضبابية الأخلاقية لمن يمسكون بمقاليد السلطة من خلال اللون الرمادي السائد وأرضية لندن الموحلة حيث البؤس والتقشف ورجال طاعنون في السن يحكمون ويتهامسون في الظلام، فضلا عن المباني السوفييتية الكئيبة.

ولا تسطع الأضواء إلا في حفل ماجن يشعر فيه جونز بضيق شديد عندما يحييه بيتر سارسغارد وهو عارٍ، وربما شعر بضيق أكبر بسبب مآل الصحافيين حين يسعون جاهدين لتناسي من يدفع لهم.

ويبدو غاريث جونز نقيا إلى درجة تجعلك تشعر بأنه ليس إنسانا من لحم ودم. ولا يحتاج المشاهد إلى إشارات كثيرة لكي يُدرك ما ينبغي أن تكون عليه المثل العليا للصحافة اليوم. وقد ضحك الصحافيون في مهرجان برلين السينمائي حين تحدث نورتون بلسان جونز قائلا إنه يتعين على الصحافيين تتبع الحقائق “وليس الانحياز إلى طرف دون آخر”.

وتعكس المخرجة هولاند الرغبة المستميتة في تصديق ستالين؛ فالكثير من المفكرين كانوا يرغبون بشدة في أن يكون ستالين ترياقا مضادا لهتلر، وبالتالي لم يكونوا مستعدين لتصديق أن سياساته تسببت في كل تلك الأهوال.

ويستشهد الفيلم بجملة جورج أورويل “ليس من أمل إذًا”، مقرا بمصداقية ما أورده جونز عن تلك المجاعة. لكن يظل الأمل باقيا طالما بقي في عالمنا أشخاص مثل غاريث جونز يجوبون البقاع بدراجاتهم كاشفين الحقيقة للعالم، وفقا لـ“بي بي سي”.

جورج أورويل: كل الحيوانات سواسية، ولكن بعضها متساو أكثر من البعضجورج أورويل: كل الحيوانات سواسية، ولكن بعضها متساو أكثر من البعض

ولم تكن يوما مسيرة الصحافي مفروشة بالسجاد الأحمر خلال عمله على أكثر التقارير أهمية في تاريخ الشعوب، وإذا كان الصحافيون قد قدموا خدمات إعلامية لعبت دورا مفصليا في كشف الحقائق وفضح أعتى طغاة السياسة والحكم إلا أن التهم بالكذب والتزوير لاحقتهم وستظل كذلك طالما أن عملهم ذو تأثير.

وتستمر المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة منذ سنوات في التحذير من تدهور حرية الصحافة في العالم، وخاصة في قلاع الديمقراطية، مع صعود موجة الشعبوية فيها، التي تكللت بدخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وكان قد بدأ حروبه الشرسة مع الصحافة منذ الحملة الانتخابية في عام 2016.

ورغم أن سجل الرؤساء الأميركيين في التعامل مع الصحافيين لم يكن ناصع البياض، إلا أن ترامب يشكل نموذجا فريدا من نوعه تجاوز تأثيره حدود الولايات المتحدة، وأصبح ملهما للدكتاتوريات التي تناصب العداء للصحافيين في العالم، بمن فيهم خصومه.

لم يتراجع ترامب قيد أنملة عن هجماته ضد الإعلام، متجاهلا الاعتداءات المتتالية ضد مؤسسات إعلامية وصحافيين حتى أصبحت الولايات المتحدة تصنف ضمن الدول التي لا تعتبر الصحافة ركيزة أساسية للديمقراطية، كما رفض ترامب الاستجابة للتحذيرات المتكررة من خطورة خطابه، والتي أطلقها العديد من الصحافيين وعلى رأسهم ناشر نيويورك تايمز آرثر غريج سالزبرغر، قائلا “إن هذه اللهجة النارية ستساهم في زيادة التهديدات ضد الصحافيين، ويمكن أن تحض على العنف”، معتبرا “أن هذا ما يحصل بالفعل في الخارج”.

وتكمن المفارقة في أن الأخبار الكاذبة التي يصر ترامب على استعمالها ونعت الإعلام بها  قائلا إنها موجهة ضده وتستهدف التغطية على إنجازاته منذ استلامه الحكم، هي ذاتها التي كانت أحد الأسباب في وصوله إلى البيت الأبيض، فحتى اليوم ما زالت شركات الإنترنت ولاسيما فيسبوك تواجه الاتهامات بالتأثير على الانتخابات الأميركية عبر منصاتها التي ساهمت في انتشار الأخبار الكاذبة وتسببت بوصول ترامب إلى البيت الأبيض.

ولا يكاد يمر أسبوع دون أن يطل الرئيس الأميركي من منبره الأثير تويتر، ليكيل الاتهامات لـ“الإعلام المضلل الفاشل عدو الشعب”، وفق وصفه.

و“عدو الشعب” ليست عبارة جديدة ابتكرها ترامب فقد سبق أن استعملها ستالين، عندما خاطر الصحافي جونز بحياته لكشف فظائع المجاعة التي أسفرت عن موت عشرة ملايين نسمة. واتهم جونز بالتلفيق واختلاق الأكاذيب، تماما كما يحدث اليوم للصحافيين “المزعجين” الذين ينبشون في خبايا السياسة.
- العرب الدوليه

صحافية سورية
رويدة رفاعي